الأحد، 25 ديسمبر 2011

جولة في أفكار الشهيد المطهري حول الملحمة الحسينية


كربلاء قضية متجذرة في الوعي الإسلامي ، ساهمت في تشكل الوعي الحركي الثائر على الظلم و الفساد ، و باتت مع تقادم الزمن أكثر رسوخاً في وجدان الأمة ، و بعبارة أخرى إنها تلك الواقعة التي قفزت فوق الزمان و المكان مستمدة من نور مشكاة النبوة رمزيتها ، و من لون البذل عنفوانها ، فاستحالت نهجاً يحمل  شعلة متوقدة تسمو بالإنسان في آفاق العزة و الكرامة، و تعبر في مدلولاتها عن محورية الصراع الدائر بين الاستكبار و الاستضعاف ، و بين رمز العدالة و التفاني في الله و رمز الاستغراق في حطام الدنيا الفانية.
تجلى التعبير عن عاشوراء بأساليب و أشكال مختلفة ، لعلّ  من أبرزها
المجالس العاشورائية ، حيث يقوم الخطيب أو العالم بسرد وقائع هذه الحادثة و الإسهاب في عرض موضوعاتها ، و للاستزادة في التشويق و الانجذاب ، كان يطلق العنان لخياله الروائي ليحلّق في آفاقها دونما حسيب أو رقيب ، فيدخل عليها الكثير من الزيادات و المبالغات . ما دفع ببعض العلماء إلى التصدي لهذه الظاهرة ، و لعل كتاب " الملحمة الحسينية " للشهيد مطهري ، و هو مؤلف في ثلاثة أجزاء من الكتب التي عالجت هذه الظاهرة معالجة وافية ، و انطلاقاً من رؤية عميقة ، و لذلك سنحاول التوقف عند أهم المحطات التي ذكرها الشهيد في كتابه.

الانحرافات في السيرة و سبل مقاومتها

يحذّر الشهيد في مستهل كتابه من الإنحرافات التي أدخلت على عاشوراء ، باعتبار ما ينطوي على هذا السلوك من سلبيات في حركة الأمة و الشعب ، و ما تخلفه من تداعيات في النظرة إلى شخصية
الإمام الحسين(ع) ، حيث يقول : " و حادثة كربلاء شئنا أم أبينا حادثة اجتماعية كبرى بالنسبة لشعبنا و أمتنا ، أي أنها حادثة مؤثرة للغاية في تربية أهلنا و عاداتهم و سلوكهم " ، (ج1، ص11).و لذلك ترى الناس يندفعون لإحياء هذه الذكرى بشكل طوعي و من تلقاء أنفسهم ، و فوق ذلك يصرفون الكثير من الجهد و المال من أجل الاستماع إلى هذه الحادثة و ما يرتبط بها من قضايا : "
إنها الحادثة التي تدفع بشعبنا بشكل آلي و دون تدخل أية قدرة خارجية إلى أن يتوجه الملايين منه لصرف ملايين الساعات من جهدهم و إنفاق الملايين لسماع ما يرتبط بها من قضايا.. " ، (ج1، ص11).و انطلاقاً من أهمية هذه الواقعة و خشية الانحراف عن مسارها الحقيقي ، يدعو الشهيد إلى  التمسك بمضمون هذه الحادثة ، و عرضها كما هي بكل مفرداتها الواقعية ، و يحذر من الانزلاق في خيالات الوهم لما يجلب من ضرر على الأمة ، فيقول : "
إن هذه القضية ينبغي عرضها كما هي دون زيادة أو نقصان ، لأنه في حالة أي تدخل أو تصرف في اللفظ أو المعنى مهما كان بسيطاً ، سيرتب بلا شك حرف اتجاه الحادثة عن مسارها ، و بالتالي إلحاق الضرر بأمتنا بالتأكيد بدلاً من إفادتها منها " ، (ج1، ص11ـ12) ، محملاً مسؤولية ما يحصل للعلماء و الرواة وحتى عامة الناس ، حيث يقول و  بكل مرارة : " إن التحريفات التي أصابت هذه القضية على أيدينا كانت كلها باتجاه التقليل من قيمة الحادثة و مسخها و تحويلها إلى حادثة لا طعم لها و لا معنى ، و المسؤولية هنا تقع على الرواة و العلماء ، كما تقع على العامة من الناس " ، (ج1، ص12).و لم يقتصر المطهري في حديثه على مظاهر التحريف المعاصرة بل يعود بالذكرى إلى
الميرزا حسين النوري أستاذ المرحوم الشيخ عباس القمي ، الذي يتطرق إلى ما ألصق بكربلاء من أكاذيب دون أن يقوم أحد بفضحها ، و لفت إلى المنحى الخطير الذي لحق بهذه الواقعة نتيجة تلك الالصاقات ، فالميرزا النوري يدعو إلى البكاء على الحسين ، ولكن ليس بسبب ما ناله جسده الطاهر من سيوف و رماح ، بل بسبب الأكاذيب التي ألصقت بالواقعة ، (ج1، ص13)  .وكما ذكرنا ، يحمّل ( الشهيد ) مسؤولية ما يحصل في هذه الذكرى للناس بإعتبارين :

- الإعتبار الأول :

 إن النهي عن المنكر واجب على الجميع ، و عليه ، فإن من يعرف بأن ما يقال على المنابر كذب و افتراء ـ و أكثر الناس تعرف ذلك ـ فإن من واجبه عدم الجلوس في هذه المجالس ، لأنه عمل حرام و الواجب يتطلب منه مقاومة هذا الكذب و فضحه.

- الإعتبار الثاني :

لابد لنا جميعاً من قهر هذه الرغبة اللامسؤولة المنتشرة بين الناس و الخطباء ، و التي تتوقع من المجالس الحسينية أن تصبح مجالس حارة و حماسية ، أو كما يصطلح عليها البعض "
كربلاء ثانية "، فالخطيب المسكين تراه أحياناً يقع في حيرة إذا ما تكلم الصدق ، و قال الحقائق دون زيادة أو نقصان من على المنبر الحسيني ، إذ إن نتيجة ذلك ستكون نعت مجلسه بالمجلس البارد و غير الحماسي ، و بالتالي عدم رغبة الناس بدعوة هذا الخطيب مجدداً ، مما يضطره إلى اختراع بعض القصص الخيالية لإدخال الحرارة إلى مجلسه ، (ج1، ص14) .و هنا يدعو الشهيد مطهري الناس إلى مقاومة هذه الرغبة اللامسؤولة و إثبات ذلك بسلوكهم ، فلا يقوموا بتشجيع مثل هذا الخطيب الحسيني ، الذي يريد تحويل مجلسه إلى كربلاء ثانية بأي ثمن كان ، (ج1، ص14ـ15)  ؛ و تكمن معالجة ذلك في استماع الناس إلى المأتم الحسيني الصادق ، حتى تتسع معارفهم ، و ينمو مستوى التفكير لديهم ، و يعرفوا بأن اهتزاز روحهم مع أية كلمة من كلمات المأتم الحسيني ، يعني تحليقها و انصهارها مع روح الحسين بن
علي(ع) ، و بالتالي فإن دمعة واحدة ، إذا ما خرجت من مآقيهم كافية لمنحهم ذلك المقام الكبير الذي ناله أنصار الحسين(ع) ، أما الدموع التي تخرج من خلال العرض المأساوي و رسم المجزرة و تشريح الذبح و المذبحة ، فلا تساوي شيئاً حتى لو كانت بحراً من الدموع ، (راجع ج 1 ، ص15).و باختصار يمكن القول ، إن هذه الرغبة اللامسؤولة لرؤية واقعة كربلاء بشكلها المأساوي من طرف الناس ، كانت هي الدافع لاختلاق الأكاذيب ، و لذلك فإن أغلب التزوير و الكذب الذي أدخل في مواعظ التعزية ، كان سببه الرغبة في الخروج من سياق الوعظ و التحليق في خيال الفاجعة. و من الواضح أن الشهيد لم يقتصر في إلقاء تبعات ما وصلت إليه المجالس الحسينية على الناس فحسب ، بل يغمز من قناة الخطباء و العلماء ، حيث يقول : "
فمن أجل شدّ الناس إلى صورة الفاجعة التاريخية و تصويرها المأساوي ، و دفع الناس إلى البكاء و النحيب ليس إلا ، كان الواعظ على الدوام مضطراً للتزوير و الاختلاق " ، (ج1،ص16).و لذلك يعتبر أن اختلاق الأكاذيب و إطلاق العنان للخيال إنما يخفضان من شأن الإمام الحسين(ع) و مقامه ، و لا يرفعان من شأنه. و من اللافت أن الشهيد يُخضع ما كان يدور في كربلاء إلى المنطق و العقل ، فيجري العمليات الحسابية ، و يعرض الحادثة أولاً ، ثم يبيّن معايبها بأسلوب منطقي عقلاني مدعم بالوثائق التاريخية ، و البحث الجاد عن المكان و الزمان لدحض المزاعم و الاختلاقات التي دخلت إلى صلب عاشوراء ، (راجع ج1، ص16ـ 28).
و هنا ينتقد الشهيد هذه الظاهرة ، مستشهداً بكلام الحاج نوري الذي يرى أن الأمور وصلت إلى وضع مأساوي ، فيدعو إلى البكاء على الحسين(ع) لكثرة الأكاذيب و الاختلاقات التي تنسب إلى واقعة عاشوراء ، حيث يقول : "
إذن لا بد أن نصدق كلام الحاج نوري عندما يقول ، إذا أراد أحد أن يبكي أبا عبد الله الحسين اليوم ، و يذكر مصائبه فعليه أن يبكي مصائب الحسين الجديدة ، أن يبكي حسيناً لكثرة الأكاذيب و الاختلاقات التي نسبت إلى واقعة عاشوراء و شخصية الإمام " ، (ج1، ص22).و هذه الأكاذيب ـ كما يقول الشهيد ـ لم يكن مردها إلى ضعف الأسانيد و إلى النقص في الوثائق : "
إن الشيء الذي يحزّ في القلب هو كون واقعة كربلاء من أغنى الوقائع التاريخية المدعمة بالوثائق الأسانيد المعتبرة. في السابق كنت أتصور أن سبب كل هذه الأكاذيب التي ألصقت بهذه الحادثة ، يكمن في عدم معرفة الوقائع الصحيحة للواقعة ، ولكنني بعد المطالعة و التدقيق لاحظت أنه ربما كانت واقعة كربلاء واحدة من أندر الوقائع التاريخية المدعمة بكل تلك الأسانيد التاريخية الباقية منذ ذلك التاريخ البعيد ، أي منذ أربعة عشر قرناً خلت ، (ج1، ص22ـ23).

الخميس، 22 ديسمبر 2011

الانسان الكامل في المنظور الاسلامي


فإنسان الإسلام الكامل إنسان قد نمت فيه القوى العقلية ، بينما إنسان التصوف الكامل يحتقر العقل . ونقطة الاختلاف الأخرى هي أن منطق التصوف يقول : اطلب من نفسك . كل ما تريد أن تعطيه أطلبه من نفسك ، أي أطلبه من قلبك ، اطلبه من الباطن .
إن الطريقة التي تقترحها هذه المدرسة لإيصال الإنسان إلى

مرحلة الإنسان الكامل هو تهذيب النفس وإصلاحها ، والاتجاه نحو الله . كلما كان اتجاه الإنسان إلى الله أكثر ، وانصرافه عن التوجه نحو غير الله أكثر ، وكلما كان التفاته إلى أعماقه أكبر ، وارتباطه بالخارج أضعف ، كان أسرع في الوصول إلى مقام الإنسان الكامل . وطبيعي إن هؤلاء لا يعترفون بأية قيمة للبحث والاستدلال والمنطق .

فما هي نهاية الطريق ؟ إن نهاية طريق الفيلسوف هي إن يصبح الإنسان عالما من الفكر " صيرورة الإنسان عالما عقليا مضاهيا للعالم العيني " . إن صورة العالم الكلية تنعكس على مرآة عقله ، أي إنه يرى العالم في داخله . هذه هي نهاية طريق الفيلسوف . فما هي نهاية طريق الصوفي نهاية طريقة الوصول إلى الرؤية . الوصول إلى ماذا ؟ الوصول إلى الذات العليا ، إلى الله . إنهم يعتقدون إنه إذا استطاع الإنسان أن يصفي باطنه ، وإن يتحرك في مركبة العشق ، وإن يطوي مراحل الطريق تحت أشراف إنسان أكمل ، يصل إلى نهاية الطريق حيث ترفع الحجب كليا بينه وبين الله ويصل - بحسب تعبيرهم - إلى الله . هناك في القرآن تعبير عن { لقاء الله }. فالصوفي لا يقول سوف أصل إلى حيث اصبح عالما من الفكر ، أو مرآة ينعكس في العالم . بل يقول : أنا ماض لأصل إلى مركز العالم :

{ يا أيّها الإنْسَانُ إنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّك كَدْحَاً فَمُلاَقِيهِ } سورة الإنشقاق ، الآية 6 .
فأنت إذا وصلت إلى هناك فسيكون لك كل شيء ، ولكنك لا تريد شيئا . هنا اللغز ، فأنت تصل إلى مقام تعطي فيه كل شيء ، ولكنك لا تلتفت إلى شيء سواه . ما أبدع ما يقوله أبو سعيد أبو الخير :
هركس كه تورا شناخت جان راجه كند
            فرزند وعيال وخانمان راجه كند
ديوانه كنى هر دوجهانش بخش
            ديوانه تو هردو جهان راجه كند
( إن من يعرفك لا حاجة له بروحه
وما حاجته بالبنين والعائلة والأهل )
( تجنّه وتمنحه كلا العالمين
            وما حاجة من جن بك بالعالمين )

فهو قبل إن يعرفك كان يريد كل شيء ، ولكنك لم تعطه يومذاك ، وعندما ما عرفك ومنحته كل شيء ، لوى جيده عن كل شيء . إن من يعرفك لا يلتفت إلى كل ما تعطيه ، فأنت فوق الدنيا والآخرة .
إذا شئنا هنا إن نبين وجهة نظر الإسلام ، وهل هذه تنسجم مع الموازين الإسلامية أم لا ، ولا يتسع لنا المجال . ولكننا تعرفنا على الإنسان الكامل عند المتصوفة ، وعرفنا إنه إنسان يصل إلى الله وعندئذ يصبح مظهرا كاملا لجميع أسماء الله وصفاته ، أو ، حسب اصطلاحهم ، يصبح مرآة تظهر فيها ذات الله وتتجلى .

وقد قلنا إن ما يعتبر هو الإنسان الكامل عند الفلاسفة ، يعتبره الإسلام إنسانا نصف كامل ، لا إنسانا كاملا . هنا لابد إن نبحث عما إذا كانت مسألة تهذيب النفس وتركيزها مطروحة في الإسلام أم لا . نعم ، لا شك إن هذه المسألة مطروحة في الإسلام ، لأن القرآن يقول :
{ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسّاها} سورة الشمس ، الآية 9و10 .
وهذا بعد إن يقسم القرآن أحد عشر قسما متواليا . هل تزكية النفس طريق في الإسلام إلى معرفة الله ، أم إن هذه المعرفة لا تكون إلا بالدليل والبرهان والاستدلال وطريق الفلاسفة والعلماء . كلا الطريقين يؤيدهما الإسلام إلى هذا الحد . هناك حديث نبوي شريف يرويه الشيعة وأهل السنة وهو من الأمور المسلم بها ، قال صلى الله عليه و آله وسلم :
" مّنْ أَخَلَصَ للّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً جَرَتْ يَنابِيعُ الحِكَمِ مِنْ قَلْبِهِ عَلى لِسَانِهِ " سفينة البحار ، مادة " خلص " .

أي أن من أمضى أربعين يوما لا تحكمه نازعة سوى رضا الله تعالى ، فلا ينطق إلا في سبيله ، ولا يسكت إلا في سبيله ، ولا ينظر إلا في سبيله ، ولا يغمض عينيه إلا في سبيله ، ولا يأكل إلا في سبيله ، ولا ينام إلا في سبيله ، ولا يستيقظ إلا في سبيله ، أي إنه ينظم حياته ويصلح روحه بحيث إنه لا يعمل شيئا إلا في سبيل الله ، ويبعد عن نفسه الهوى أربعين يوما ، ويصبح إبراهيم خليل الله الذي يحكى عنه القرآن :
{ قُل إنَّ صَلَوَاتِي وَنُسْكِي ومَحْيَايَ ومَمَاتي للّهِ رَبِّ العَالَمِينَ } سورة الأنعام ، الآية 162 .

فإذا وفق امرؤ أن يبتعد عن أهواء نفسه أربعين يوما ، ابتعادا تاما ، وإن لا يقوم خلالها بأي عمل إلا لله ، وإن لا يتحرك إلا لله ، وإن لا يحيا إلا لله ، فإن عيون المعرفة تتدفق في باطنه بعد هذه المدة وتجرى على لسانه . ومن هذا يتضح إن الإسلام يقبل بالعلم الذي يطلقون عليه اسم العلم الآفاقي ، أي العلم الذي ينبثق من الداخل ، في الوقت نفسه الذي يقبل به بالعلم العقلي الذي يدعو إليه ، إذ يطلب القرآن من موسى إن يذهب للتعلم :
{فَوَجَدَ عَبْدَاً مِنْ عِبَادِنَا آتيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَاْ وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنْاْ عِلْماً } سورة الكهف ، الآية 65 .

إنه علم لم يتعلمه من بشر ، وإنما هو علم اندفع من باطنه بأمرنا . ومن هنا يأتي تعبير " العلم اللدني " والذي عبر عنه الشاعر حافظ بلغته الجميلة ، إذ يقول :
شنيدم رهروي درسرزميني
            همى كفت أين معما باقريني
كه أي صوفى شراب آنكه شود صاف
            كه در شيشه بما ند أربعيني
( سمعت عابرا في بعض الأرض
            لا يفتأ يذكر هذا اللغز لقرينه
( أيها الصوفي ، إنما يروق الشراب
            إذا بقى في القنينة أربعينا )

ويقول الرسول الكريم أيضا :
" لَولا أنَّ الشَّيْاطِينَ يْحومونَ حَوْلَ قُلوُبِ بَني آدَمَ لَنَظَرُوا إلى مَلَكُوتِ السَّماواتِ " معراج السعادة ، ص11 . أي أن الشياطين يدورون حول بني آدم ويثيرون الغبار والظلام ، وإلا لاستطاعوا بعيون قلوبهم أن يروا ملكوت الله . كذلك يقول الرسول (ص) :
" لَولا تَمْرِيعٌ فِي قُلوُبِِكُمْ أوْ تَزيدُكُمْ في الحَدِيثِ لَسَمَعْتُم مْاَ أَسْمَعُ " مسند أحمد ، ج 2665 .

وقوله أيضا :
" لَوْلا تَكْثيرٌ في كَلاَمِكُمْ وَتَمْزيجٌ في قُلُوبِكُمْ لَرَأَيْتُمْ مَا أَرَى وَلَسَمَعْتُمْ ماَ أَسْمَعُ " معراج السعادة .
فلا يلزم المرء أن يكون نبيا ليرى ما يراه الأنبياء ويسمع ما يسمعونه . بل إن غير الأنبياء يسمعون أيضا ، مثلما سمعت مريم . وعلي (ع) وهو ابن عشر سنوات ، كان في خدمة الرسول (ص) يتعبد معه في المعبد ، وفي غار حراء كان معه . وعندما نزل الوحي لأول مرة على الرسول (ص) وتغير العالم في نظره ، كان علي يسمع تلك الأصوات التي كان النبي (ص) يسمعها من عالم الغيب والملكوت ، إنه يقول :

" وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيطانِ حِينَ نَزَلَ الوَحْيُ عَلَيهِ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلهِ . فَقُلْتُ يَا رسَوُلَ اللهِ مَا هذِهِ الرَّنَّةُ ؟ فَقَالَ : هَذَا الشَّيْطَانَ قَدْ أَيسَ مِنْ عِبادَتِهِ . إنَّكَ تَسمَعُ مَا أسْمَعُ ، وَتَرى مَا أرى ، إلا إنَّك لَسَتَ بِنبيٍّ ، وَلَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ وإنّكَ لَعَلَى خَيُرٍ " نهج البلاغة ، الخطبة 190 .
وعليه ، فإن تصفية النفس والإخلاص والابتعاد عن أهواء النفس لا يقتصر أثرها على إضفاء الصفاء على القلب ، بل إن لها أثرا أعلى وأرفع من ذلك ، وهو إنها تفجر العلم والحكمة في داخل الإنسان .

هناك حديث آخر جاء فيه أن أصحاب الرسول (ص) قالوا : " يا رسول الله ، نخاف علينا النفاق " انظر كيف إن هؤلاء المؤمنين أحسوا في أنفسهم بدغدغة أثارت ريبتهم في أن يكونوا من المنافقين بغير أن يعلموا . فقال : ولم تخافون ذلك ؟ قالوا : إذا كنا عندك فذكرتنا ورغبتنا ، وَجِلْنا ونسينا الدنيا وزهدنا حتى كأنّا نعاين الآخرة والجنة والنار ونحن عندك . فإذا خرجنا من عندك ودخلنا هذه البيوت وشممنا الأولاد ورأينا العيال والأهل يكاد أن نحوّل عن الحال التي كنا عليها عندك وحتى كأنا لم نكن على شيء . أفتخاف علينا أن يكون ذلك نفاقا ؟ فقال لهم رسول الله (ص) : كلا إن هذه خطوات الشيطان . فيرغبكم في الدنيا . والله لو تدومون على الحالة التي وصفتم أنفسكم بها لصافحتكم الملائكة ومشيتم على الماء . ولولا إنكم تذنبون فتستغفرون الله لخلق الله خلقا حتى يذنبوا ثم يستغفروا الله فيغفر لهم . إن المؤمن مفتن تواب . أما سمعت قول الله عزّ وجلّ : { إنَّ اللهَ يُحَبُّ التَّوابِين وُ يْحِبُّ المَتَطَهِّرينَ } وَقَالَ : { اسْتَغْفِروا رَبَّكُمْ ثُم توُبُوا إلَيهِ } الكافي - كتاب الإيمان والكفر - باب " في تنقل أحوال القلب " 



الأحد، 18 ديسمبر 2011

أصالة الرُّوح


 
في هذه المطالعة حول (أصالة الرُّوح) يقدّم العلَّامة الشّهيد مرتضى مطهرّي تعريفاً للنّفس وعلاقتها بالجسد. وفيها سنقرأ كيف عالجت الفلسفة الإسلاميّة هذه القضيّة وما لازمها من جدل طويل، وهو ما يزال سارياً في الفكر الفلسفي الحديث بجانبيه الإسلامي والغربي.



المعروف أنّ أرسطو وابن سينا قد توجَّها إلى إثبات الوحدة بين الرُّوح والبدن إلى حدٍّ ما، بينما نظريَّة أفلاطون كانت تبتني على أساس الإثنينيّة والإنفصال بينهما، وأرسطو قد بنى نظريَّته هذه على نظريَّته المعروفة: المادّة والصُّورة.

والآن نأتي إلى الفلاسفة الإسلاميِّين بعد إبن سينا، ونرى كيف صوّروا لنا المسألة.
لم يحقِّق الفلاسفة المسلمون في هذا المضمار أيّ تقدُّم يُذكَر، صحيح أنّهم حقَّقوا تقدُّماً هامّاً في أعمِّ وأهمِّ مسألة من مسائل الفلسفة الأولى -أعني مسائل الوجود- وكان لهذا التقدُّم أثر كبير على أكثر المسائل الفلسفيّة؛ ومن بينها مسألة الحركة والتّرابط، أو الإنفصال بين الرُّوح والبدن.


ولا بدَّ لنا من الإشارة إلى أنّ صدر المتألِّهين الشيرازي كان بطل التّحوُّل في هذه المسألة، أي مسألة الوجود، وعند تأسيسه لأصول جديدة عالية حصلت هذه النتيجة:


توجد إلى جانب الحركات الظاهريّة العرضيّة المحسوسة التي تحكم ظواهر الكون، حركة جوهريّة عميقة غير محسوسة تَحكم جوهر العالم، وهي أصل للحركات الظاهريّة، فإذا فرضنا أنّ هناك مادّة وصورة، فلا بدَّ من فرضهما عن طريق هذه الحركة. 


ولا بدَّ من القول بأنّ تكوُّن الأجسام المتنوِّعة إنّما هو نتيجة لهذه الحركة، لا أنّه نتيجة للكون والفساد، وإنّ الرُّوح نفسها هي نتاج لقانون هذه الحركة، وهذا القانون مبدأ لتكوُّن المادَّة نفسها، والمادَّة قادرة على أن تربِّي في حِجرها موجوداً يضاهي ما وراء الطّبيعة، ولا يوجد في الحقيقة ما يحول بين المادَّة وما وراء الطّبيعة، ولا مانع من أن تتحوَّل المادّة بعد اجتيازها لمراحل الرُّقيّ والتّكامل إلى موجود غير مادِّي.
ونظريّة أفلاطون حول مبدأ التّكوُّن للنّفس، ونوع العلاقة بينها وبين البدن غير صحيحة، وهكذا نظريّة أرسطو. ذلك لأنّ نوع العلاقة بين المادّة والحياة -الرُّوح والبدن- أكثر طبيعيّة وجوهريّة من هذه العلاقات المذكورة، إذ نوع العلاقة بينهما إنَّما هي كعلاقة درجة أقوى من الدَّرجة الأضعف لشيءٍ واحد.
جئنا بهذه المقدّمة لأنّ البحث حول إمكانيّة كَوْن الرُّوح من خواصّ المادّة عند تركيب أجزائها لا مفهوم له قبل أن نفهم نوع العلاقة بين الرُّوح والبدن. وهكذا، بعدما ألقينا الضَّوء على نوع العلاقة بين الرُّوح والبدن، تسنح لنا الفرصة كي نتساءل:


هل أنَّ الرُّوح نتيجة لتركيب عناصر المادَّة كسائر النّتائج والخواصّ التي تترتَّب على المادّة في حالتَيْ التّجزُّؤ والتَّركيب؟ أم أنّ المادّة عندما تكون مادّة لا تَتمتَّع بهذه الخواصّ؟ بل هذه الخواصّ إنّما تترتَّب على المادّة عندما تكون في ذاتها وجوهرها متكاملة، حيث تصل إلى مرحلة من الوجود غير المادِّي، والخواصّ الرُّوحيّة إنَّما تكون لهذه المرحلة من الوجود؟


لمّا وصل بنا البحث إلى هنا، لا نجد من الضّروري أن نحدِّد البحث في روح الإنسان والظَّواهر النفسيّة له، بل في إمكاننا أن نتوسَّع في البحث إلى سائر آثار الحياة على الإطلاق، فنقول:
إنَّ الفرق الذي يمكن أن يكون بين آثار الفكر وسائر آثار الحياة هو التَّجرُّد وعدمه، وهنا لسنا في صدد بيان هذا الفرق، فالذي يهمّنا الآن هو أنّ الروح ليست أثراً للمادَّة، بل هي الكمال الجوهري الذي تحصل عليه المادَّة، وهي في مرتبة من مراتبها التَّكامليّة. ففي مرتبتها الكماليّة هذه، تحتوي المادّة على آثار أكثر تنوُّعاً وتطوُّراً من الآثار التي تحتويها قبل بلوغها هذه المرتبة. وطريقة التَّكامل هذه ليست مخصوصة بِرُوح الإنسان أو الحيوان، بل إنّها تعمّ جميع أنواع الحياة.


ومهما كانت حقيقة الحياة سواءً كنّا نَقدر على فهم كُنْهِها أم لم نقدر، فمِن الواضح أنّ بعض الموجودات الحيّة من النَّباتات والحيوانات يتمتَّع بنوعٍ من الآثار والنَّشاطات التي لا تتمتَّع بها الموجودات غير الحيّة.
هذا البعض من الموجودات الحيّة يتمتَّع بخصوصيّات الحفاظ على الذَّات، ويَصُون نفسه من التأثّر بالبيئة، بمعنى أنَّ الموجودات الحيّة إذا وَجَدت نفسها في بيئة ما، فهي تستعدّ بقوَّتها الداخليّة للحفاظ على حياتها، ويستعدُّ جهازها الداخلي للمقاومة مع أيَّة قوَّة مُناوِئة داخل تلك البيئة، حتّى تستقرَّ لها الحياة.
من جانبٍ آخر، توجَد في هذه الموجودات الحيَّة قوَّة الإنسجام مع المحيط والبيئة، بينما الموجودات غير الحيَّة لا تتمتَّع بهذه القوة، وهذه الأخيرة إذا وُجِدت في بيئة ما وتوفَّرت الأسباب للقضاء عليها، فإنَّها تفقد المقاومة في الحفاظ على ذاتها. الموجود الحيّ يتمتَّع بالعادات والغرائز، فإذا تواجه مع مزاحم خارجي فإنَّه يتألَّم ويتعذَّب ويَنهار تجاه ذلك المزاحم، ويَفقد توازنه، ولكنَّه مع ذلك يَتعوَّد شيئاً فشيئاً ويكتسب المناعة في وجه الإعتداءات الخارجيّة، وهذا الأمر يتحقَّق نتيجة للنَّشاطات الداخليّة وانطلاقاً من غريزة الحفاظ على الذَّات، ومهما توفَّرت لديه الوسائل فإنَّه يكتسب هذه المناعة. فالنَّبات أو الحيوان بل إنَّ العضو الواحد داخل الجسم إذا واجه حالةً تريد القضاء على حياته وتوازنه، فإنَّه يقدر بصورة تدريجيّة على المقاومة، فَيَد الإنسان الليّنة لا تقدر على مقاومة الأجسام الخشنة مثلاً، ولكنّها تتعوّد تدريجياً على المقاومة؛ فالقوّة الداخلية تقوم بتغييرات في نسج الجلد كي يتوفَّر للجلد التَّمكُّن من المقاومة مع الأجسام الخشنة.


والموجود الحيّ يتمتَّع بخصوصيَّة التَّغذية، فهو يجذب المواد الخارجيّة بقوَّة داخليّة، ثمَّ يقوم بتجزئة وتركيب هذه المواد كي يستمدّ منها البقاء لذاته، بينما الموجود غير الحيّ لا يتمتَّع بهذه الخصوصيّة. ذلك أنَّ الموجود الحيّ أينما كان ينمو بالتدَّريج ويتجدّد ويتكامل ويكتسب القوَّة، حتّى يتأهَّل لتوليد القدرة على إبقاء نسله. فهو يموت ولكنَّه يبقى في أجياله.
فالحياة أينما وُجِدَت فإنَّها تتغلَّب على البيئة المحيطة بها، وتتغلَّب أيضاً على العناصر غير الحيّة من الطّبيعة، فهي تقوم بالتّغييرات في تراكيبها وتعطي لها وضعاً وتركيباً جديداً، فالحياة مصوِّر، ومصمِّم، ومهندس، ورسّام، تتمتّع بخاصِّيّة التّكامل والتّقدُّم.


هذه الخواصّ كلّها توجد في الموجود الحيّ، ولا توجد في الموجود الغير الحيّ، يقول (كرس موريسن): «إنّ المادّة لا تتمتَّع بأيّ نشاط، والحياة دائماً هي التي تطرح خططاً جديدة وبديعة في كلِّ آن. ومن هنا نعلم أنّ الحياة هي قوّة في نفسها وكمال في ذاتها، وهي فعليّةٌ مستقلَّة توجد في المادّة وتتمتَّع بآثار ونشاطات متنوَّعة غير التي توجد في المادة».
ذكرنا فيما سبق: أنّ علماء أوروبا قد حقَّقوا في علم الحياة تقدُّماً مدهشاً وقد مهَّدوا الأرضيّة للدِّراسات الفلسفيّة حول الرُّوح والبدن، وإن لم يكن هدفهم المنشود الوصول إلى هذه النّتيجة، وفي الحقيقة إنّهم درسوا الحياة والخواصّ الموجودة في الأحياء درساً وافياً وقيِّماً يوضِح أصالة الرُّوح.


صحيح أنَّه وجد من العلماء جماعة عرفوا حقيقة الموضوع، وأشاروا إلى أصالة الرُّوح، وصرَّحوا بأنّ الرُّوح قوّة منفصلة، وأنّ آثار الحياة معلولة لهذه القوَّة، لا أنّها معلولة لجمع المادّة وتركيبها وتفريق أجزائها وتأليفها، والذين لا يَرون أصالة الرُّوح أمثال (لامارك) الذي صرَّح «بأنّ طبيعة الحياة لا بُدَّ أن تُدرس ميكانيكيّاً»، عندما نطالع نظريّاتهم بدقَّة نرى أنّ الذي حملهم على إنكار حقيقة الرُّوح هو القول الشائع بينهم بالنّظريّة الإثنينيّة القائلة: بأنَّ الرُّوح والبدن شيئان متنافيان، وأنّ القوَّة الرُّوحيّة منفصلة عن القوَّة الماديّة، وكانوا يزعمون أنّ الرُّوح لو كانت أصيلة لما كانت متأثِّرة بالمحيط والبيئة، وكان مِن اللّازم عندئذٍ أن تكون الرُّوح في حالة واحدة في جميع البيئات والحالات، وكان من اللَّازم أيضاً أن لا تتأثَّر بالنّشاطات الفيزيائيّة والكيماويّة للبدن، والحال أنّ جميع المشاهدات العلميّة تشهد بخلاف ذلك.
يقول (لامارك): «ليست الحياة إلَّا عبارة عن كيفيّة التّفاعلات الفيزيائيّة، وأنّ مظاهر الحياة مُستمَدَّة مِن عِلَلٍ فيزيائيّة وكيماويّة، وأنّ منشأ الحياة يوجد في بدن الحيّ».


لقد كان لامارك يحسب أنّ الروح لو كانت أصيلة لما كانت لها علاقة مع العِلَل الفيزيائيّة والكيماويّة، وكان من اللّازم أن لا يوجد منشأ لها في المادّة الحيّة.


لقد ذكرنا سابقاً أنّ هذه هي النظرية الإثنينيّة لـ «ديكارت» -وهي ترجع في الأصل إلى أفلاطون- وقد كلّفت هذه النظرية الفلسفة ثمناً غالياً، فقد حملت العلماء على أن يفكّروا في انفصال الرّوح عن البدن ويجعلوهما طرفين مُتنافيَين عندما يتعرضون لأصالة الرّوح.


 

معنى التقوى وحقيقتها



لا بدّ لنا لمعرفة معنى التقوى وحقيقتها، من ذكر مقدمة، وهي:

لو أراد إنسان ما أن تكون له مبادئ وأهداف في الحياة، وأن يسير وفق تلك المبادئ للوصول إلى أهدافه المنشودة، فلا بدّ له من أن يختط لنفسه مساراً معيناً لا يحيد عنه مهما نازعته أهواؤه ومصالحه ونزواته إلى ذلك، وبالتالي يكون عليه أن يحافظ على نفسه من الأمور التي تتفق مع أهوائه ونزواته، وتتنافى مع الأصول والأهداف التي اتخذها لنفسه.

ومن هنا نعرف أنّ التقوى بمعناها العام لازمة لحياة
كلّ فرد يريد أن يكون إنساناً، وأن يحيا تحت حكم العقل، وأن يتبع قواعدَ وأصولاً معينة.




وأما التقوى الدينية فهي أن يحافظ الإنسان على نفسه، ويصونها عن ارتكاب كلّ ما يراه الدين خطأً وإثماً وفساداً وقبحاً، وهذه التقوى يمكن أن تتصّور بصورتين:

الأولى: وهي أن يهرب الإنسان من مجتمعه ومحيطه الفاسد الملي‏ء بالآثام والمعاصي، وبهذا الهروب يمكنه الحفاظ على نفسه من ارتكاب المعاصي والآثام والأوزار، كمن يتجنب البقاء في محيط موبوء بالملاريا فيهرب إلى مكان نقي لا مرض فيه.

الثانية: وهي أن يبقى المرء في مثل ذلك المجتمع الفاسد، على أن يوجد في نفسه قوّة وملكة تورثه مناعة روحية وأخلاقية تجعله لا يتأثر بهذه الآثام، ولا يقترب منها، مهما كانت المغريات كبيرة، ومهما كانت جاذبيتها شديدة، كمن يتناول لقاحاً ضدّ الملاريا ويبقى بين المرضى فإنّه لا يتأثر بالمرض أبداً.

 

مراتب المؤمنين ولذة الدعاء



المؤمنون على مراتب:
أ- المؤمن الذي يعتقد بوجود الله سبحانه، ويعرفه معرفة كاملة، لكنّه لا يمتلك حسّ رؤية ألطاف الله وعناياته التي يفيضها في حياته الخاصّة واليوميّة، وهذه المرحلة تسمّى بمرحلة "علم اليقين".

ب- المؤمن الذي فضلاً عن معرفته واعتقاده، فإنّه يشاهد أثر توحيده وتوكّله واعتماده على الله دون غيره، حيث يستشعر استجابة دعائه ويجد أثر التوكل والاعتماد على الله في حياته الخاصّة، وهذا المؤمن يكون في مرحلة "عين اليقين".

ج- المؤمن الذي يرى نفسه في ارتباط مباشر مع الله، بل لا يرى نفسه شيئاً يذكر، وهذا العبد يكون قد وصل إلى مرحلة "حق اليقين".

وهذا المؤمن هو الذي يعيش حقيقة الدعاء ولذّة الإنقطاع إلى الله، فإنّه يمارس فنّاً في العبودية والإيمان





أسمى من فنون الطبّ والهندسة والرسم، ويعيش لذّة تفوق لذّة رؤية مريضه الذي شُفي، أو بنائه الذي شمخ، أو لوحته التي تزهر ؛ فأثر الدعاء لمن يتقنه لط الهيّ يغمر الإنسان، عزّة تهز الشعور، تسامٍ روحيّ يستغرق الذات كلّها، وما يتقن الدعاء إلا ذلك المؤمن الذي صار من أهل القلب النيّر السليم، ومن الذين لم تمتلكهم وتغرّهم هذه الأسباب الظاهرية، فصاروا على ارتباط مباشر مع الله يعتمدون ويتوكّلون عليه.

نسأل الله أن يوفقنا إلى أن ندعوه ونناجيه بتلك الحالة المعنوية السامية.


الثلاثاء، 13 ديسمبر 2011

كلمات شهيد عن الشهيد


الانسان الكامل -1- الشهيد مطهري



في اللغة العربية كلمتان متقاربتان في المعنى ، ولكنهما ليستا بمعنى واحد ، وثمة كلمة أخرى هي ضد تينك الكلمتين ، وهي كلمة واحدة لا أكثر ، تستعمل مرة ضده هذه الكلمة ، وتستعمل مرة ضد الأخرى . أما في الفارسية فليس عندنا مرادف لتينك الكلمتين . إنما لدينا كلمة واحدة للمعنيين . واللفظتان العربيتان هما : الكمال ، والتمام . فمرة يقال : كامل ، ومرة يقال : تام ، وضدهما الناقص . هذا كامل وذاك ناقص . وهذا تام وذاك ناقص . وقد وردت كلتا الكلمتين في إحدى الآيات القرآنية :

{ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } سورة المائدة ، الآية 3 .
ولم يقل : أتممت لكم دينكم . يقولون : لو كان قد قال : أتممت لكم دينكم ، لما صح ذلك لغويا . فما الفرق بين هذين ؟ إنَّنا إذا لم نشرح الفرق بينهما ، ولا يتهيأ لنا أنْ نبدأ بحثنا ، إذ أنَّ بحثنا يبدأ بمعرفة معنى هاتين اللفظتين .

تطلق لفظة "التمام" على الدرجات التي يتطلبها وجود جميع الأشياء اللازمة لوجود شيء ما أي إذا لم يوجد بعضها ، فيكون الشيء في ماهيته ناقصا . فهو لم يوجد كله ، بل وجد بعضه . فهذا شيء قابل للزيادة والنقصان ، فيمكن أن يقال نصفه موجود ، أو ثلثه موجود ، أو ثلثاه موجودان . كالعمارة التي يجب أن تبني على وفق خريطة معينة ، كالمساجد مثلا . فلكي يكون المسجد مسجدا يلزمه أن تكون فيه قاعة ، والقاعة يلزمها الجدران والسقف والمدخل . فهو يحتاج إلى أشياء كثيرة أخرى عند البناء فإذا وجدت جميع الأشياء التي يستلزمها بناء المسجد ، بحيث أنَّ عدم وجودها يجعل المسجد غير قابل للاستفادة ، وعندئذ يقال : البناء تام . ويقابله : البناء ناقص .

أما الكمال فهو درجات يمكن أنْ يصل إليها الشيء بعد أنْ اصبح تاما ، درجة بعد درجة . إذا لم يكن هذا الكمال ، فالشيء موجود بتمامه ، ولكن إذا أضيف إليه الكمال ، ارتفع درجة واحدة . يعتبرون الكمال خطا عموديا ، والتمام خطا أفقيا . أي أن الشيء عندما يبلغ نهايته أفقيا يقال انه قد تم ، وعندما يتحرك عموديا ، يكون متجها نحو الكمال . يقال أن فلانا قد كمل عقله ، فهو كان عاقلا قبل ذاك ولكن عقله قد ارتفع الآن درجة . أو يقال علم فلان قد اكتمل ، فهو كان له علم ، وكان يستفيد من علمه ولكنه الآن ارتقى درجة أخرى من درجات الكمال . إنَّ الإنسان الكامل معناه وجود إنسان تام في قبال إنسان لم يزل أفقيا غير تام ، لم يزل نصف إنسان ، كسر إنسان ، ربع إنسان ، ثلث إنسان ، ليس إنسانا تاما . والإنسان يكون تاما ، ويكون قابلا لكي يكون كاملا ، ويكون أكمل ، وأكمل ، إلى ذلك الحد النهائي ، ذلك النهائي الذي لا يكون فوقه إنسان . ذلك هو الإنسان الكامل ، وهو الذي بلغ ارفع حدود الإنسانية .
إنَّ تعبير " الإنسان الكامل " لم يكن له وجود في الآداب الإسلامية حتى القرن السابع الهجري ولكنه اليوم مستعمل حتى في أوروبا . وأول من استعمل هذا التعبير في عالم الإسلام بشأن الإنسان وطرح موضوعا باسم الإنسان الكامل ، هو العارف المغروف ( محي الدين العربي الأندلسي الطائي ) . ومحي الدين هذا هو أبو العرفان والتصرف الإسلامي . أي أنَّ جميع هؤلاء المتصوفة والعرفانيين الذين نعرفهم في جميع الملل الإسلامية ، بما فيهم الفرس والإيرانيين الذين ظهر ذوو الشأن فيهم من القرن السابع فما فوق وفي أوائل القرن السابع ، هم جميعا من تلامذة مدرسة محي الدين . مولوي نفسه أحد تلامذة مدرسة محي الدين . إنَّ مولوي على عظمته لا يعد شيئا مذكورا بازاء محي الدين في مسائل العرفان والتصوف . ومحي الدين العربي يتصل نسبة إلى حاتم الطائي ، ظهر في الأندلس ، ولكنه رحل إلى كثير من الأقطار العربية والإسلامية ، وتوفي في الشام ، وقبره ما يزال هناك أحد تلامذته يدعى صدر الدين غونوي ، برز بعد أستاذه .

وكان من اشهر رجال العرفان . أما التصوف الإسلامي الذي بدأ كعلم غامض جداً ، فهو من عمل محي الدين ، وعليه شروح صدر الدين غونوي . وكان مولوي معاصرا لصدر الدين الذي كان إمام جماعة في أحد المساجد ، فكان مولوي يقتدي يه في الصلاة ، فانتقلت أفكار محي الدين إلى مولوي عن طريق صدر الدين ز أما ما تسمعونه بخلاف هذا حول هذا الموضوع فلا صحة له . إن للتصرف الإسلامي جذورا غير هذه الترهات التي أخذ ينشرها بعضهم هذه الأيام في الصحف والمجلات .


من المسائل التي طرحها هذا الرجل هي مسألة الإنسان الكامل ، ولكنه ، بالطبع ، طرحها من حيث المنظور العرفاني . إلا أنَّه استعمل لفظة الإنسان الكامل وشرحها من وجهة النظر العرفانية الخاصة . إلا أن الآخرين أيضا فسروا الإنسان الكامل بحسب وجهات نظرهم . وهذا الذي نريد أن نشرحه من حيث وجهة نظر القرآن ، لكي نعرف كيف ينظر القرآن إلى الإنسان الكامل . وهذا يقتضينا ، بالضرورة ، أنْ نبدأ بالكلام على الإنسان التام والإنسان الناقص ، لأننا ما لم نطو هذه المرحلة لا يمكن أن نصل إلى تلك المرحلة .


هنالك إنسان سالم وإنسان معيوب ، وهي سلامة وعيب يرتبطان بجسم الإنسان ، فمما لا شك فيه أن هناك إنسان سالم جسميا ، وآخر معيوب جسميا . إلا أن هذا يخص الإنسان . أي أنَّ الإنسان إذا كان أعمى ، أو أخرس ، أو أشل ، أو قصيرا ، فإنك لا تعتبر أيا من ذلك نقصا في فضيلة الرجل ولا في إنسانيته وشخصيته ، فسقراط ، الفيلسوف اليوناني المعروف ، الذي يعتبره بعضهم من الأنبياء ، كان من اقبح الناس وجها ، إلا أنَّ أحد لا يعتبر ذلك عيباً في سقراط . أو أن أبا العراء النعري الفيلسوف كان أعمى ، وطه حسين من المعاصرين كان أعمى أيضاً . فهل هذا العمى نقص في شخصيتهما وعيب فيهما ؟ كلا ، ليس الأمر كذلك . وهذا نفسه دليل على أن في الإنسان شيئين . له شخصيتان : جسمية وروحية . له جسم ونفس . وحساب النفس غير حساب الجسم . وإنَّ القول بأنَّ نفس الإنسان تابعة للجسم ، إنَّما هنا يظهر أنَّه خطأ مائة بالمائة . خذ مثلا : هل يمكن أن تكون نفس مسألة قائمة بذاتها . 

إنَّ الذين ينكرون الروح مباشرة وبغير وساطة ، ناشئة من الجهاز العصبي ، ولا يرون للنفس وجودا أصلا ، ويقولون إنَّ كل شيء تابع للجسم ، فإذا كانت نفسية المرء مريضة فجسمه هو المريض حتما وهو السبب فالمرض النفسي هو المرض الجسمي .

ولكن من حسن الحظ أنه قد القي مؤخرا ضوء  أكثر على أنَّ الإنسان يمكن أنْ يكون جسميا سليما . فمن حيث دمه ، وعدد كرياته البيض والحمر ، ومن حيث جهازه العصبي ، وكمية الفيتامينات فيه ، يكون الجسم سليماً طبياً ، ولا يكون في أعصابه أي مرض ، ومع ذلك يكون نفسيا مريضا كأن تكون فيه ، كما يقال اليوم ، عقدة نفسية . يقول العلم المعاصر إنَّ من به عقدة نفسية فهو مريض ، أي أنَّ هناك اختلالا في جهازه النفسي ، بغير أنْ يصاحبه أي خلل جسمي ، ولهذا السبب فإن علاج هذا الاختلال النفسي لا يكون دواءا ماديا . فمثلا إذا كان أحد مصابا بعقدة التكبر - وهي قد ثبت أنَّها مرض واختلال نفسي وروحي فهل يمكن العثور على دوائه في الصيدليات ، وانه إذا تناول ذلك الدواء يتغير تكبره إلى تواضع ؟ أو هل يمكن تحويل إنسان قاسي القلب سفاح ، بالأقراص والحقن ، إلى إنسان رحيم عطوف ؟ بل إنَّ الافتقار إلى ذلك يوجد الأمراض في الإنسان . 

إنَّ الذي يحس بالحقد على شخص آخر ، يتمنى لو انتقم منه ، ولا يقر له قرار حتى يورده موارد الهلاك .
فما هي هذه الرغبة في الانتقام في الإنسان ؟ هذا أمر قائم بذاته . إنَّ الحسود عندما يرى النعمة في الآخرين يتمنى بكل جوارحه أن تزول تلك النعمة عنهم ، بغير أنْ يريدها لنفسه . 

أما الإنسان السليم فإنه يغبط الآخرين ، ولا يحسدهم . إنه يفكر في نفسه ويسعى لكي يسبق الآخرين . إذا فكر الإنسان أن يكون دائما متقدما ، فإنه يكون سليما ، إذ أن ذلك لا يكون عيبا فيه . أما الذي لا يفتأ يدعو أن يتأخر فلان ، فإنّه مريض . وقد تشاهدون أحيانا إنسانا حسودا يصل به الأمر إلى حيث أنه يرتقي لنفسه أنْ يصاب بمئة مصيبة إذا أصيب الذي يحسد بخمسين .

 هناك قصة تاريخية معروفة في كتب التاريخ . يقولون : في عهد أحد الخلفاء كان هناك رجل ثري اشترى غلاماً ، ولكنه منذ البداية لم يعامله كما يعامل الغلمان ،  بل أخذ يعامله معاملة السادة ، فيقدم له ألذّ الأطعمة ، ويلبسه أغلى الملابس ، ويهيئ له افضل وسائل الراحة ، وكأنه ابنه ، بل وبأفضل من معاملته لابنه ، بما في ذلك منحه مبالغ كبيرة من المال ، إلا أن الغلام كان يرى أن سيده دائم التفكير كثير القلق ، حتى إنه قرر أخيرا أنْ يعتقه ويهبه رأسمالاً كبيرا . وفي ليلة جلس يشكو للغلام ما ينتابه من هم وغم . قال له : إنَّني على استعداد لعتقك ، و لإعطائك كذا مقدار من المال ، ولكن أتدري لم قمت لك بكل هذه الخدمات ؟ فقال : لا . فقال : لطلب واحدا أريدك أنْ تنفذه ، وإذا نفذته فحلال عليك كل الذي أعطيته لك ، وإذا لم تنفذه فلن ارض عنك . وإذا وعدت بتنفيذه فسوف أعطيك أكثر . فقال الغلام : عليك الأمر وعلي الطاعة ، فأنت ولي نعمتي ، ووهبتني الحياة . فقال : كلا . عليك أنْ تعدني وعداً قاطعاً ، لأني أخشى إذا كشفت لك الأمر أنْ ترفض . فقال : أبدا ، قل ما بدا لك . وإذا وثق الرجل لكلام الغلام ، قال له : إنني سوف آمرك في مكان معين وفي ظرف خاص أنْ تخزَّ رقبتي من الوريد إلى الوريد . فقال الغلام : ما معنى هذا ؟ فقال : هذا هو طلبي . فقال لا يكون شيء كهذا . فقال : بل يكون ، لأنك قد وعدتني ، ولا بد أنْ تفي بوعدك . وعند منتصف إحدى الليالي أيقظ الغلام وناوله سكينا حادة ، وتقدم على أطراف أصابعه صاعدا إلى سطح دار جاره ، وناول الغلام كيسا من المال ، ونام على السطح وقال له : الآن اقطع رأسي واذهب إلى حال سبيلك . فسأله الغلام : لماذا ؟ فقال : لأني لا أتحمل رؤية هذا الجار ، فالموت أحب إليّ من الحياة مع هذا الإنسان الذي يتقدمني في كل شيء ، وكل ما عنده خير مما عندي . كنا نتنافس فسبقني . إنَّني احترق في النار . أريد أنْ اتهمه بجريمة قتل تلقي به في السجن . فإذا حصل هذا فسوف ارتاح . هذا كل شيء . فإذا قتلت هنا في دار منافسي ، فغدا عندما يسألون : من الذي قتله ؟ سوف يقال منافسه هو الذي قتله ، خاصة وأنّه وجد على سطح داره . فيقبضون عليه ويسجنونه ، ثم يعدمونه فتتحقق أمنيتي . فقال الغلام : مادمت على هذه الدرجة من الحماقة ، فلماذا لا أفعل انك تستحق القتل فعلا . وقتله ، واخذ كيس المال وانصرف .

وانتشر الخبر ، وقبض على المنافس والقي في السجن ثم خطر لهم إنه إذا كان هذا هو القاتل حقا لما قتله على سطح داره . وتعقدت القضية ولم يعرفوا لها حلا . أما الغلام فراح ضميره يؤنبه حتى حمله على التسليم للحكومة وكشف لهم عن حقيقة الحادث ، وقال : إنني قتلته بناء على طلبه ورغبته ، لأنه كان يشتعل في نار حسده اشتعالاً فضّل معه الموت على الحياة . فصدقوه ، و أطلقوا سراحه وسراح منافس القتيل .
تلك هي حقيقة ، وهي مرض فعلا ، فالمرء يصاب بمرض الحسد . ولقد جاء في القرآن :
{قَدْ افْلَحَ مَنْ زكّاهَا وَقَد خَابَ مْنْ دَسّاهَا } سورة الشمس ، الآية 9 و 10 .
وعليه ، فإن أول خطوة في منهج القرآن هي تزكية النفس ، وتهذيبها ، وتطهيرها من الأمراض والعقد ومن الظلام ، ومن القلق ، ومن الانحراف ، بل ومن المسخ ، وهي مسألة مهمة جدا . فما معنى المسخ ؟ لعلك قد سمعت أن في الأمم القديمة كان أناس قد ارتكبوا الكثير من الإثم ، فدعا عليهم نبيهم فمسخوا ، أي تحولوا إلى حيوان ، إلى قرد ، أو ذئب ، أو دب ، أو أي حيوان آخر . هذا يقال له المسخ . فلننظر ، هل حقا مسخ الإنسان وتحول إلى حيوان .


هنا ينبغي أنْ نقول أنه حتى إذا فرضنا أن الإنسان لا يمسخ جسميا إلى حيوان ، ولكن الذي لا شك فيه هو أنَّ الإنسان يمكن أنْ يمسخ روحياً ونفسياً ويتغير إلى حيوان ، بل قد يتحول إلى نوع من الحيوان ليس في العالم أحط منه وأقذر . { بِلْ هُمْ أضَلُّ } سورة الأعراف ، الآية 179. كما يكون هذا ؟ أيصح أنْ يتحول الإنسان روحياً إلى حيوان ؟ نعم ، لأن شخصية الإنسان كإنسان تتجلى في خصائصه الأخلاقية والنفسية متسمة بالخصائص الإنسانية في الخلق والنفسية ، بل اتسمت بخصائص حيوان مفترس ، أو بهيمة ، واخلاقيته فهذا هو المسخ . وهذه هي الحقيقة ، فإنها روحه التي مسخت . أن الخنزير الذي نراه فيه تناسب بين روحه وجسمه . فقد تكون جميع خصاله الإنسان أشبه بخصال الخنزير ، فهذا يكون قد انسلخ من الإنسانية ، واصبح في المعنى وفي الباطن وفي عين الحقيقة وفي الملكوت خنزيراً حقاً ولا شيء غير ذلك .


وعليه ، فإن الإنسان المعيوب قد يصل إلى أنْ يصبح إنساناً مسخاً . هذه أمور قلما نسمع عنها وقد يحسبها بعضهم من الأمورالمجازية فلا يصدقونها ، ولكن تلك هي الحقيقة . قال رجل كنا مع الإمام السجاد (ع) ذاهبين إلى مكة . في صحراء عرفات نظرنا فإذا بالحجيج يعدون بالآلاف ، وقال الرجل أنه رأى الناس ، من مكانه المرتفع ، وكأنها أمواج تموج ، فالتفت إلى الإمام قائلاً : ما أكثر الحجيج فقال الإمام : "مَا أَكْثَرَ الضَّجِيِجَ وأَقَلَّ الحِجيجَ " سفينة البحار ، ج2، ص71 . إثبات الهداة ج5 ، ص39  . ويقول الرجل : لا أدري ما فعله بي الإمام والنظرة التي اوحاها الي ، والعين التي فتحها لي ، إنما قال لي : الآن انظر . فنظرت وإذا بالصحراء مليئة بحيوانات من مختلف الأنواع كحديقة الحيوانات ، وبينهم بعض الأشخاص يتحركون . وقال الإمام : ها أنت ترى باطن القضية . هذا أمر واضح وضوح النهار عند أهل المعنويات وأهل الباطن ، وأما إذا لم يشأ العقل المتجدد قبول ذلك فهو على خطأ ، ففي زماننا هذا يوجد أناس يستطيعون أنْ يدركوا الإنسان على حقيقته ، وأنْ يروا أن الإنسان شبه بذي الأربع ، الذي لايفهم شيئا سوى الأكل والنوم والجنس ، ولا يمكن أن تختلف روحه عن أرواح ذوات الربع ، وإن باطنه قد مسخ ، أي أنَّ الحقائق الإنسانية وإنسانيته قد سلبت منه كليا ، واستبدل بها ، بيده ، الصفات الحيوانية . نقرأ في سورة " عمَّ " : 

{ يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا وفتحت السماء فكانت أبوابا وسيرت الجبال فكانت سرابا } سورة عم يتساءلون ، الآيات 18 و 19 و 20 .

ويكرر القادة من رجال الدين أنَّ فوجاً واحداً فقط من الناس يحشرون على هيئة إنسان ، وإما الأفواج الأخرى فهي على هيئات الحيوانات ، فبعض بهيئة النمل ، وبعض بهيئة القرود ، وبعض بهيئة العقارب وبعض بهيئة الأفاعي ، وبعض بهيئة النمور . لماذا ؟ هل يمكن أن تحوّل هيئات الناس إلى حيوانات بغير سبب ظ كلا . إنَما هذا يعنى أن من كان في الدنيا على غرار العقرب ، لا هم له سوى اللسع ، ولا يلذ له إلا إيذاء الناس ، يحشر على صورته الحقيقية . والذي كان عمله في الدنيا لا يتعدى ما يفعله القرود لا شك يحشر يوم القيامة على هيئة القرود ، لأنه قرد بصفاته . والذي كان كالكلب ، يحشر على هيئة الكلاب ، وذلك لأنه " يحشر الناس على نياتهم " . فما في الناس من نوايا وخصال وصفات وأهداف وأمنيات حقيقية هي التي يحشرون بها يوم القيامة . فما انت في هذه الدنيا ؟ وما الذي تريد أن تكونه وما الذي تريده ؟ هل طلباتك طلبات إنسان ؟ أم إنها طلبات حيوان مفترس ، أو طلبات طائر ؟ مهما تكن طلباتك تكن مثل صاحبها الذي تحشر على شاكلته . ولذلك فإننا منهيون عن كل العبادات عدا عبادة الله . فما نعبده نكون مثله . فإذا كنا نعبد المال أصبح المال جزءا من ماهيتنا ومن وجودنا ، وهذا المال يوم القيامة هو ذلك المعدن الذائب الذي يقول عنه القرآن :
{ والّذين يكنزون الذَّهَبَ والفِضَّة ولا ينفقونها في سبيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذاب أليم . يومَ يحمى عَلَيْهَا في نار جهنم فتكوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ هذا ما كنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ } سورة التوبة الآيتان 34و35 .

فهذه هي التي تحمى وتكون ناره . لا تقولوا أن النقد المعدني قد زال وحلت محله العملة الورقية . كلا . لكل شيء في الآخرة ماهيته الخاصة به ، فالعملة تظهر في الآخرة على هيأة نار ناشئة من الأصفر والأبيض والتي يشتد اكتواء الإنسان بها . فهذه هي ما تسخ الإنسان وعليه فالإنسان المعقد إنسان معيوب . إنَّ الإنسان الذي يعبد مادة ما يكون إنسانا معيوبا مسخا إنِّ الكمال في كل مخلوق يختلف عنه في المخلوق الآخر ، فالإنسان الكامل ، مثلا ، غير الملك الكامل . فإذا كان الملك في ملائكيته يمكن أنْ يصل إلى الحد الأعلى من حدود كماله ، فإنه يختلف عن الإنسان وهو في عالم إنسانيته ، عندما يصل إلى الحد الأعلى من الكمال الإنساني ، وذلك لأن الذين ، علمونا بوجود الملائكة قالوا لنا أن الملائكة مخلوقون من العقل المحض ، الفكر المحض ، أي إنهم ليس فيهم أي جاني أرضي ، مادي ، شهواني ، غضبي ، وأمثال ذلك .
وهكذا الحيوانات ، فالحيوانات أرضيين صرفا مجردين مما يدعوه القرآن بالروح الإلهية . إنما الإنسان هو الكائن المركب من العناصر الملائكية والعناصر الأرضية . إنه كائن ملكوني وفلكي . إنه كائن علوي وسفلي ، وهذا هو نص الحديث الوارد في "الكافي" :
" إنَّ الله تعَالَى خَلَقَ المَلائِكَةَ وَرَكَّبَ فِيهمْ العَقْل ، وخَلَقَ البَهَائِمَ وَرَكَّبَ فِيها الشَّهْوَة ، وخَلَقَ بني آدَمَ وَرَكَّبَ فيهمْ الْعَقْلَ والشَّهوَةَ . فَمْنْ غَلَبَ عَقْلُهُ عَلَى شهْوَتِهِ فَهُوَ أَعْلى مِنَ الملاَئِكَةِ ، ومَنْ غَلَبَ شَهْوتهُ عَلى عَقلِهِ فَهُوُ مِنْ البهَائِمِ " اصول الكافي - تفسير الصافي - علل الشرايع . وقد وردت هذه الرواية عند أهل السنة بألفاظ مقاربة .

ثم يقول إنَّ جمعا قد خلقوا من النور المطلق ، وجمعا من الغضب والشهوة ويقصد بهم الحيوانات أما الإنسان فقد خلقه الله مركبا . فالإنسان الكامل الذي يختلف عن الحيوان الكامل ، عن الحصان الأصيل الكامل ، كذلك يختلف عن الملك الكامل . إنَّ اختلاف الإنسان عن أولئك متأتٍ من اختلاف تركيب ذاته :
{إنَّا خَلَقْنا الإنْسَانَ مَنْ نُطُفَةٍ أمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ } سورة الدهر ، الآية 2 .

أي أنَّ الله خلق الإنسان من نطفة حفظ فيها الكثير من القابليات أو الاستعدادات أو " الجينات " بالمصطلح المعاصر ، وإنها قد بلغت مرحلة وضعها الله خلالها موضع الاختيار ، أي إنها قد بلغت حدا من الكمال بحيث أنّه خلقه حراً له حرية الاختيار ، جديرا بتحمل مسؤولية التكاليف ، ووضعه في معرض الابتلاء والامتحان والحصول على الدرجات . ولأن نطفته امشاج ، مزيج من التسبيحات والتفاعلات المختلفة ، فقد عرّض للامتحان وللتقدير وللثواب وللعقاب ، أما الكائنات الأخرى فليست لها تلك الجدارة .

{فَجَعلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً . إنّا هَدَيْناهُ السَّبيلَ إما شَاكَراً وإمّا كَفُوراً } . سورة الإنسان ، الآية 2و3 .

لا يمكن التعبير عن حرية الإنسان في الاختيار ، وأصل حريته في الاختيار ومبناه بأفضل وأجمل من هذا التعبير : لقد اختبرناه ، وجعلناه يسمع ويبصر ويدرك ، وأريناه الطريق ، وله بعد ذلك بملء اختياره أنْ يسير فيه أوْ لا يسير . { إنّا هَديْناهُ السَّبيلَ إمّا شاكَراً وإمّا كَفُوراً } عندئذ ، هذا الإنسان الكامل ، الإنسان الذي يقول القرآن { خَلَقْناهُ مِنْ نُطفَةٍ أمْشاَجٍ } يختلف انسانه الكامل ، لهذا السبب عن الملك الكامل ، فكمال الإنسان يكمن في تعادله وتوازنه ، أي أنه بالنظر لوجود كل هذه الاستعدادات والقابليات المختلفة فيه ، ينبغي ألا يتمسك بواحدة منها فقط ويهمل سائر قابلياته ويعطلها عن العمل فالإنسان الكامل هو الذي يعني بها جميعا ويربيها وينميها معا في حالة متعادلة ومتوازنة ، إذ إن العلماء يقولون إن حقيقة العدل ترجع إلى التوازن والتجانس . والتجانس هنا يعني أنَّه في الوقت الذي تنمو فيه جميع قابليات الإنسان ، يكون هذا النمو بصورة متجانسة .

والآن اضرب لكم مثلا بسيطا . فالطفل ينمو ويكبر ، وللطفل يد ورجل ورأس وفي رأسه عينان وأنف وفم وأسنان وله أحشاء وأمعاء . فهذه كلها في الطفل السليم تنمو وتكبر في انسجام وتجانس . والآن فلنتصور حالة كاريكاتورية ، كما في الصور ، إن شخصا لا ينمو منه إلا عضو واحد ، انفه مثلاً هو الذي يكبر دون سائر الأعضاء  بحيث يصبح انفه بحجم جسمه أو أن عينيه فقط يكبران ، أو رأسه فقط ويبقى جسمه صفيرا  ، أو تنمو يداه ولا تنمو رجلاه ، أو تنمو قدماه ولا تنمو يداه ، فهذا نمو غير متجانس . الإنسان الكامل هو الذي تنمو جميع قيمة الإنسانية معا بإنسجام وتناسب ، ولا تختلف واحدة عن أخرى في النضج والنمو حتى تبلغ أعلى مستوياتها ، عندئذ يكون هذا إنساناً كاملاً ، ويصبح ذلك الإنسان الذي يصفه القرآن بأنه الإمام :
{ وإذْ ابتلى إبْراهِيمَ رَبُّه بِكَلِماتٍ فأتَّمَهُنَّ قَالَ إنّي جاعلُكّ لِلْنَاسِ إمَامَاً قَال ومنْ ذُرِّيَّتي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ } سورة البقرة ، الآية 124 .

فإبراهيم بعد أن اجتاز اختبارات ربه العظيمة المتنوعة وأتمها ، ونجح في كل تلك الامتحانات بدرجات عالية ، وهي لم تكن امتحاناً واحداً ولا اثنين ولا ثلاثة ولا أربعة ، بل كانت امتحانات عظيمة كان واحدا منها أن يعد العدة لذبح ابنه بيده في سبيل الله .

هذا هو التسليم ، بعد أنْ عرف أن الذي يأمره بذلك هو الله ، فاستعد لتنفيذ الأمر بغير اعتراض . وعندما حان الحين ، وبعد أن تهيأ إسماعيل نفسه للذبح ، يأتيه نداء ربه :
[ ونَادَيْناهُ أنْ إبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا } سورة الصافات . الآية 104 .

نعم ، إنَّ الأمر قد انتهي ، وإنَّ ما كنا نريده منك هو هذا التسليم لأمرنا والرضا بقضائنا إلى هذا الحد . فبعد أن اجتاز إبراهيم كل تلك الاختبارات ، من الالتقاء في النار حتى اخذ ابنه للذبح وخرج منها فائزا بمفرده ، ويتضح :
{ إنَّ إبْراهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً للهِ حَنِيفَاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِيْنَ } سورة النحل ، الآية 120 .
إنَّه ينافح قوما بمفرده ، فيقول له الله { إنّي جَاعُلكَ لَلنَاسِ إمَامَاً } فقد بلغت مرحلة تكون فيها قدوة إماماً ، رائداً ، نموذجاً للآخرين الذين يريدون أن يبلغوا كمالهم أنْ يتخذوك مثلا ويحذون حذوك .