فإنسان الإسلام الكامل إنسان قد نمت فيه القوى العقلية ، بينما إنسان التصوف الكامل يحتقر العقل . ونقطة الاختلاف الأخرى هي أن منطق التصوف يقول : اطلب من نفسك . كل ما تريد أن تعطيه أطلبه من نفسك ، أي أطلبه من قلبك ، اطلبه من الباطن .
إن الطريقة التي تقترحها هذه المدرسة لإيصال الإنسان إلى
مرحلة الإنسان الكامل هو تهذيب النفس وإصلاحها ، والاتجاه نحو الله . كلما كان اتجاه الإنسان إلى الله أكثر ، وانصرافه عن التوجه نحو غير الله أكثر ، وكلما كان التفاته إلى أعماقه أكبر ، وارتباطه بالخارج أضعف ، كان أسرع في الوصول إلى مقام الإنسان الكامل . وطبيعي إن هؤلاء لا يعترفون بأية قيمة للبحث والاستدلال والمنطق .
فما هي نهاية الطريق ؟ إن نهاية طريق الفيلسوف هي إن يصبح الإنسان عالما من الفكر " صيرورة الإنسان عالما عقليا مضاهيا للعالم العيني " . إن صورة العالم الكلية تنعكس على مرآة عقله ، أي إنه يرى العالم في داخله . هذه هي نهاية طريق الفيلسوف . فما هي نهاية طريق الصوفي نهاية طريقة الوصول إلى الرؤية . الوصول إلى ماذا ؟ الوصول إلى الذات العليا ، إلى الله . إنهم يعتقدون إنه إذا استطاع الإنسان أن يصفي باطنه ، وإن يتحرك في مركبة العشق ، وإن يطوي مراحل الطريق تحت أشراف إنسان أكمل ، يصل إلى نهاية الطريق حيث ترفع الحجب كليا بينه وبين الله ويصل - بحسب تعبيرهم - إلى الله . هناك في القرآن تعبير عن { لقاء الله }. فالصوفي لا يقول سوف أصل إلى حيث اصبح عالما من الفكر ، أو مرآة ينعكس في العالم . بل يقول : أنا ماض لأصل إلى مركز العالم :
{ يا أيّها الإنْسَانُ إنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّك كَدْحَاً فَمُلاَقِيهِ } سورة الإنشقاق ، الآية 6 .
فأنت إذا وصلت إلى هناك فسيكون لك كل شيء ، ولكنك لا تريد شيئا . هنا اللغز ، فأنت تصل إلى مقام تعطي فيه كل شيء ، ولكنك لا تلتفت إلى شيء سواه . ما أبدع ما يقوله أبو سعيد أبو الخير :
هركس كه تورا شناخت جان راجه كند
فرزند وعيال وخانمان راجه كند
ديوانه كنى هر دوجهانش بخش
ديوانه تو هردو جهان راجه كند
( إن من يعرفك لا حاجة له بروحه
وما حاجته بالبنين والعائلة والأهل )
( تجنّه وتمنحه كلا العالمين
وما حاجة من جن بك بالعالمين )
فهو قبل إن يعرفك كان يريد كل شيء ، ولكنك لم تعطه يومذاك ، وعندما ما عرفك ومنحته كل شيء ، لوى جيده عن كل شيء . إن من يعرفك لا يلتفت إلى كل ما تعطيه ، فأنت فوق الدنيا والآخرة .
إذا شئنا هنا إن نبين وجهة نظر الإسلام ، وهل هذه تنسجم مع الموازين الإسلامية أم لا ، ولا يتسع لنا المجال . ولكننا تعرفنا على الإنسان الكامل عند المتصوفة ، وعرفنا إنه إنسان يصل إلى الله وعندئذ يصبح مظهرا كاملا لجميع أسماء الله وصفاته ، أو ، حسب اصطلاحهم ، يصبح مرآة تظهر فيها ذات الله وتتجلى .
وقد قلنا إن ما يعتبر هو الإنسان الكامل عند الفلاسفة ، يعتبره الإسلام إنسانا نصف كامل ، لا إنسانا كاملا . هنا لابد إن نبحث عما إذا كانت مسألة تهذيب النفس وتركيزها مطروحة في الإسلام أم لا . نعم ، لا شك إن هذه المسألة مطروحة في الإسلام ، لأن القرآن يقول :
{ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسّاها} سورة الشمس ، الآية 9و10 .
وهذا بعد إن يقسم القرآن أحد عشر قسما متواليا . هل تزكية النفس طريق في الإسلام إلى معرفة الله ، أم إن هذه المعرفة لا تكون إلا بالدليل والبرهان والاستدلال وطريق الفلاسفة والعلماء . كلا الطريقين يؤيدهما الإسلام إلى هذا الحد . هناك حديث نبوي شريف يرويه الشيعة وأهل السنة وهو من الأمور المسلم بها ، قال صلى الله عليه و آله وسلم :
" مّنْ أَخَلَصَ للّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً جَرَتْ يَنابِيعُ الحِكَمِ مِنْ قَلْبِهِ عَلى لِسَانِهِ " سفينة البحار ، مادة " خلص " .
أي أن من أمضى أربعين يوما لا تحكمه نازعة سوى رضا الله تعالى ، فلا ينطق إلا في سبيله ، ولا يسكت إلا في سبيله ، ولا ينظر إلا في سبيله ، ولا يغمض عينيه إلا في سبيله ، ولا يأكل إلا في سبيله ، ولا ينام إلا في سبيله ، ولا يستيقظ إلا في سبيله ، أي إنه ينظم حياته ويصلح روحه بحيث إنه لا يعمل شيئا إلا في سبيل الله ، ويبعد عن نفسه الهوى أربعين يوما ، ويصبح إبراهيم خليل الله الذي يحكى عنه القرآن :
{ قُل إنَّ صَلَوَاتِي وَنُسْكِي ومَحْيَايَ ومَمَاتي للّهِ رَبِّ العَالَمِينَ } سورة الأنعام ، الآية 162 .
فإذا وفق امرؤ أن يبتعد عن أهواء نفسه أربعين يوما ، ابتعادا تاما ، وإن لا يقوم خلالها بأي عمل إلا لله ، وإن لا يتحرك إلا لله ، وإن لا يحيا إلا لله ، فإن عيون المعرفة تتدفق في باطنه بعد هذه المدة وتجرى على لسانه . ومن هذا يتضح إن الإسلام يقبل بالعلم الذي يطلقون عليه اسم العلم الآفاقي ، أي العلم الذي ينبثق من الداخل ، في الوقت نفسه الذي يقبل به بالعلم العقلي الذي يدعو إليه ، إذ يطلب القرآن من موسى إن يذهب للتعلم :
{فَوَجَدَ عَبْدَاً مِنْ عِبَادِنَا آتيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَاْ وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنْاْ عِلْماً } سورة الكهف ، الآية 65 .
إنه علم لم يتعلمه من بشر ، وإنما هو علم اندفع من باطنه بأمرنا . ومن هنا يأتي تعبير " العلم اللدني " والذي عبر عنه الشاعر حافظ بلغته الجميلة ، إذ يقول :
شنيدم رهروي درسرزميني
همى كفت أين معما باقريني
كه أي صوفى شراب آنكه شود صاف
كه در شيشه بما ند أربعيني
( سمعت عابرا في بعض الأرض
لا يفتأ يذكر هذا اللغز لقرينه
( أيها الصوفي ، إنما يروق الشراب
إذا بقى في القنينة أربعينا )
ويقول الرسول الكريم أيضا :
" لَولا أنَّ الشَّيْاطِينَ يْحومونَ حَوْلَ قُلوُبِ بَني آدَمَ لَنَظَرُوا إلى مَلَكُوتِ السَّماواتِ " معراج السعادة ، ص11 . أي أن الشياطين يدورون حول بني آدم ويثيرون الغبار والظلام ، وإلا لاستطاعوا بعيون قلوبهم أن يروا ملكوت الله . كذلك يقول الرسول (ص) :
" لَولا تَمْرِيعٌ فِي قُلوُبِِكُمْ أوْ تَزيدُكُمْ في الحَدِيثِ لَسَمَعْتُم مْاَ أَسْمَعُ " مسند أحمد ، ج 2665 .
وقوله أيضا :
" لَوْلا تَكْثيرٌ في كَلاَمِكُمْ وَتَمْزيجٌ في قُلُوبِكُمْ لَرَأَيْتُمْ مَا أَرَى وَلَسَمَعْتُمْ ماَ أَسْمَعُ " معراج السعادة .
فلا يلزم المرء أن يكون نبيا ليرى ما يراه الأنبياء ويسمع ما يسمعونه . بل إن غير الأنبياء يسمعون أيضا ، مثلما سمعت مريم . وعلي (ع) وهو ابن عشر سنوات ، كان في خدمة الرسول (ص) يتعبد معه في المعبد ، وفي غار حراء كان معه . وعندما نزل الوحي لأول مرة على الرسول (ص) وتغير العالم في نظره ، كان علي يسمع تلك الأصوات التي كان النبي (ص) يسمعها من عالم الغيب والملكوت ، إنه يقول :
" وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيطانِ حِينَ نَزَلَ الوَحْيُ عَلَيهِ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلهِ . فَقُلْتُ يَا رسَوُلَ اللهِ مَا هذِهِ الرَّنَّةُ ؟ فَقَالَ : هَذَا الشَّيْطَانَ قَدْ أَيسَ مِنْ عِبادَتِهِ . إنَّكَ تَسمَعُ مَا أسْمَعُ ، وَتَرى مَا أرى ، إلا إنَّك لَسَتَ بِنبيٍّ ، وَلَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ وإنّكَ لَعَلَى خَيُرٍ " نهج البلاغة ، الخطبة 190 .
وعليه ، فإن تصفية النفس والإخلاص والابتعاد عن أهواء النفس لا يقتصر أثرها على إضفاء الصفاء على القلب ، بل إن لها أثرا أعلى وأرفع من ذلك ، وهو إنها تفجر العلم والحكمة في داخل الإنسان .
هناك حديث آخر جاء فيه أن أصحاب الرسول (ص) قالوا : " يا رسول الله ، نخاف علينا النفاق " انظر كيف إن هؤلاء المؤمنين أحسوا في أنفسهم بدغدغة أثارت ريبتهم في أن يكونوا من المنافقين بغير أن يعلموا . فقال : ولم تخافون ذلك ؟ قالوا : إذا كنا عندك فذكرتنا ورغبتنا ، وَجِلْنا ونسينا الدنيا وزهدنا حتى كأنّا نعاين الآخرة والجنة والنار ونحن عندك . فإذا خرجنا من عندك ودخلنا هذه البيوت وشممنا الأولاد ورأينا العيال والأهل يكاد أن نحوّل عن الحال التي كنا عليها عندك وحتى كأنا لم نكن على شيء . أفتخاف علينا أن يكون ذلك نفاقا ؟ فقال لهم رسول الله (ص) : كلا إن هذه خطوات الشيطان . فيرغبكم في الدنيا . والله لو تدومون على الحالة التي وصفتم أنفسكم بها لصافحتكم الملائكة ومشيتم على الماء . ولولا إنكم تذنبون فتستغفرون الله لخلق الله خلقا حتى يذنبوا ثم يستغفروا الله فيغفر لهم . إن المؤمن مفتن تواب . أما سمعت قول الله عزّ وجلّ : { إنَّ اللهَ يُحَبُّ التَّوابِين وُ يْحِبُّ المَتَطَهِّرينَ } وَقَالَ : { اسْتَغْفِروا رَبَّكُمْ ثُم توُبُوا إلَيهِ } الكافي - كتاب الإيمان والكفر - باب " في تنقل أحوال القلب "
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق