الأحد، 18 ديسمبر 2011

أصالة الرُّوح


 
في هذه المطالعة حول (أصالة الرُّوح) يقدّم العلَّامة الشّهيد مرتضى مطهرّي تعريفاً للنّفس وعلاقتها بالجسد. وفيها سنقرأ كيف عالجت الفلسفة الإسلاميّة هذه القضيّة وما لازمها من جدل طويل، وهو ما يزال سارياً في الفكر الفلسفي الحديث بجانبيه الإسلامي والغربي.



المعروف أنّ أرسطو وابن سينا قد توجَّها إلى إثبات الوحدة بين الرُّوح والبدن إلى حدٍّ ما، بينما نظريَّة أفلاطون كانت تبتني على أساس الإثنينيّة والإنفصال بينهما، وأرسطو قد بنى نظريَّته هذه على نظريَّته المعروفة: المادّة والصُّورة.

والآن نأتي إلى الفلاسفة الإسلاميِّين بعد إبن سينا، ونرى كيف صوّروا لنا المسألة.
لم يحقِّق الفلاسفة المسلمون في هذا المضمار أيّ تقدُّم يُذكَر، صحيح أنّهم حقَّقوا تقدُّماً هامّاً في أعمِّ وأهمِّ مسألة من مسائل الفلسفة الأولى -أعني مسائل الوجود- وكان لهذا التقدُّم أثر كبير على أكثر المسائل الفلسفيّة؛ ومن بينها مسألة الحركة والتّرابط، أو الإنفصال بين الرُّوح والبدن.


ولا بدَّ لنا من الإشارة إلى أنّ صدر المتألِّهين الشيرازي كان بطل التّحوُّل في هذه المسألة، أي مسألة الوجود، وعند تأسيسه لأصول جديدة عالية حصلت هذه النتيجة:


توجد إلى جانب الحركات الظاهريّة العرضيّة المحسوسة التي تحكم ظواهر الكون، حركة جوهريّة عميقة غير محسوسة تَحكم جوهر العالم، وهي أصل للحركات الظاهريّة، فإذا فرضنا أنّ هناك مادّة وصورة، فلا بدَّ من فرضهما عن طريق هذه الحركة. 


ولا بدَّ من القول بأنّ تكوُّن الأجسام المتنوِّعة إنّما هو نتيجة لهذه الحركة، لا أنّه نتيجة للكون والفساد، وإنّ الرُّوح نفسها هي نتاج لقانون هذه الحركة، وهذا القانون مبدأ لتكوُّن المادَّة نفسها، والمادَّة قادرة على أن تربِّي في حِجرها موجوداً يضاهي ما وراء الطّبيعة، ولا يوجد في الحقيقة ما يحول بين المادَّة وما وراء الطّبيعة، ولا مانع من أن تتحوَّل المادّة بعد اجتيازها لمراحل الرُّقيّ والتّكامل إلى موجود غير مادِّي.
ونظريّة أفلاطون حول مبدأ التّكوُّن للنّفس، ونوع العلاقة بينها وبين البدن غير صحيحة، وهكذا نظريّة أرسطو. ذلك لأنّ نوع العلاقة بين المادّة والحياة -الرُّوح والبدن- أكثر طبيعيّة وجوهريّة من هذه العلاقات المذكورة، إذ نوع العلاقة بينهما إنَّما هي كعلاقة درجة أقوى من الدَّرجة الأضعف لشيءٍ واحد.
جئنا بهذه المقدّمة لأنّ البحث حول إمكانيّة كَوْن الرُّوح من خواصّ المادّة عند تركيب أجزائها لا مفهوم له قبل أن نفهم نوع العلاقة بين الرُّوح والبدن. وهكذا، بعدما ألقينا الضَّوء على نوع العلاقة بين الرُّوح والبدن، تسنح لنا الفرصة كي نتساءل:


هل أنَّ الرُّوح نتيجة لتركيب عناصر المادَّة كسائر النّتائج والخواصّ التي تترتَّب على المادّة في حالتَيْ التّجزُّؤ والتَّركيب؟ أم أنّ المادّة عندما تكون مادّة لا تَتمتَّع بهذه الخواصّ؟ بل هذه الخواصّ إنّما تترتَّب على المادّة عندما تكون في ذاتها وجوهرها متكاملة، حيث تصل إلى مرحلة من الوجود غير المادِّي، والخواصّ الرُّوحيّة إنَّما تكون لهذه المرحلة من الوجود؟


لمّا وصل بنا البحث إلى هنا، لا نجد من الضّروري أن نحدِّد البحث في روح الإنسان والظَّواهر النفسيّة له، بل في إمكاننا أن نتوسَّع في البحث إلى سائر آثار الحياة على الإطلاق، فنقول:
إنَّ الفرق الذي يمكن أن يكون بين آثار الفكر وسائر آثار الحياة هو التَّجرُّد وعدمه، وهنا لسنا في صدد بيان هذا الفرق، فالذي يهمّنا الآن هو أنّ الروح ليست أثراً للمادَّة، بل هي الكمال الجوهري الذي تحصل عليه المادَّة، وهي في مرتبة من مراتبها التَّكامليّة. ففي مرتبتها الكماليّة هذه، تحتوي المادّة على آثار أكثر تنوُّعاً وتطوُّراً من الآثار التي تحتويها قبل بلوغها هذه المرتبة. وطريقة التَّكامل هذه ليست مخصوصة بِرُوح الإنسان أو الحيوان، بل إنّها تعمّ جميع أنواع الحياة.


ومهما كانت حقيقة الحياة سواءً كنّا نَقدر على فهم كُنْهِها أم لم نقدر، فمِن الواضح أنّ بعض الموجودات الحيّة من النَّباتات والحيوانات يتمتَّع بنوعٍ من الآثار والنَّشاطات التي لا تتمتَّع بها الموجودات غير الحيّة.
هذا البعض من الموجودات الحيّة يتمتَّع بخصوصيّات الحفاظ على الذَّات، ويَصُون نفسه من التأثّر بالبيئة، بمعنى أنَّ الموجودات الحيّة إذا وَجَدت نفسها في بيئة ما، فهي تستعدّ بقوَّتها الداخليّة للحفاظ على حياتها، ويستعدُّ جهازها الداخلي للمقاومة مع أيَّة قوَّة مُناوِئة داخل تلك البيئة، حتّى تستقرَّ لها الحياة.
من جانبٍ آخر، توجَد في هذه الموجودات الحيَّة قوَّة الإنسجام مع المحيط والبيئة، بينما الموجودات غير الحيَّة لا تتمتَّع بهذه القوة، وهذه الأخيرة إذا وُجِدت في بيئة ما وتوفَّرت الأسباب للقضاء عليها، فإنَّها تفقد المقاومة في الحفاظ على ذاتها. الموجود الحيّ يتمتَّع بالعادات والغرائز، فإذا تواجه مع مزاحم خارجي فإنَّه يتألَّم ويتعذَّب ويَنهار تجاه ذلك المزاحم، ويَفقد توازنه، ولكنَّه مع ذلك يَتعوَّد شيئاً فشيئاً ويكتسب المناعة في وجه الإعتداءات الخارجيّة، وهذا الأمر يتحقَّق نتيجة للنَّشاطات الداخليّة وانطلاقاً من غريزة الحفاظ على الذَّات، ومهما توفَّرت لديه الوسائل فإنَّه يكتسب هذه المناعة. فالنَّبات أو الحيوان بل إنَّ العضو الواحد داخل الجسم إذا واجه حالةً تريد القضاء على حياته وتوازنه، فإنَّه يقدر بصورة تدريجيّة على المقاومة، فَيَد الإنسان الليّنة لا تقدر على مقاومة الأجسام الخشنة مثلاً، ولكنّها تتعوّد تدريجياً على المقاومة؛ فالقوّة الداخلية تقوم بتغييرات في نسج الجلد كي يتوفَّر للجلد التَّمكُّن من المقاومة مع الأجسام الخشنة.


والموجود الحيّ يتمتَّع بخصوصيَّة التَّغذية، فهو يجذب المواد الخارجيّة بقوَّة داخليّة، ثمَّ يقوم بتجزئة وتركيب هذه المواد كي يستمدّ منها البقاء لذاته، بينما الموجود غير الحيّ لا يتمتَّع بهذه الخصوصيّة. ذلك أنَّ الموجود الحيّ أينما كان ينمو بالتدَّريج ويتجدّد ويتكامل ويكتسب القوَّة، حتّى يتأهَّل لتوليد القدرة على إبقاء نسله. فهو يموت ولكنَّه يبقى في أجياله.
فالحياة أينما وُجِدَت فإنَّها تتغلَّب على البيئة المحيطة بها، وتتغلَّب أيضاً على العناصر غير الحيّة من الطّبيعة، فهي تقوم بالتّغييرات في تراكيبها وتعطي لها وضعاً وتركيباً جديداً، فالحياة مصوِّر، ومصمِّم، ومهندس، ورسّام، تتمتّع بخاصِّيّة التّكامل والتّقدُّم.


هذه الخواصّ كلّها توجد في الموجود الحيّ، ولا توجد في الموجود الغير الحيّ، يقول (كرس موريسن): «إنّ المادّة لا تتمتَّع بأيّ نشاط، والحياة دائماً هي التي تطرح خططاً جديدة وبديعة في كلِّ آن. ومن هنا نعلم أنّ الحياة هي قوّة في نفسها وكمال في ذاتها، وهي فعليّةٌ مستقلَّة توجد في المادّة وتتمتَّع بآثار ونشاطات متنوَّعة غير التي توجد في المادة».
ذكرنا فيما سبق: أنّ علماء أوروبا قد حقَّقوا في علم الحياة تقدُّماً مدهشاً وقد مهَّدوا الأرضيّة للدِّراسات الفلسفيّة حول الرُّوح والبدن، وإن لم يكن هدفهم المنشود الوصول إلى هذه النّتيجة، وفي الحقيقة إنّهم درسوا الحياة والخواصّ الموجودة في الأحياء درساً وافياً وقيِّماً يوضِح أصالة الرُّوح.


صحيح أنَّه وجد من العلماء جماعة عرفوا حقيقة الموضوع، وأشاروا إلى أصالة الرُّوح، وصرَّحوا بأنّ الرُّوح قوّة منفصلة، وأنّ آثار الحياة معلولة لهذه القوَّة، لا أنّها معلولة لجمع المادّة وتركيبها وتفريق أجزائها وتأليفها، والذين لا يَرون أصالة الرُّوح أمثال (لامارك) الذي صرَّح «بأنّ طبيعة الحياة لا بُدَّ أن تُدرس ميكانيكيّاً»، عندما نطالع نظريّاتهم بدقَّة نرى أنّ الذي حملهم على إنكار حقيقة الرُّوح هو القول الشائع بينهم بالنّظريّة الإثنينيّة القائلة: بأنَّ الرُّوح والبدن شيئان متنافيان، وأنّ القوَّة الرُّوحيّة منفصلة عن القوَّة الماديّة، وكانوا يزعمون أنّ الرُّوح لو كانت أصيلة لما كانت متأثِّرة بالمحيط والبيئة، وكان مِن اللّازم عندئذٍ أن تكون الرُّوح في حالة واحدة في جميع البيئات والحالات، وكان من اللَّازم أيضاً أن لا تتأثَّر بالنّشاطات الفيزيائيّة والكيماويّة للبدن، والحال أنّ جميع المشاهدات العلميّة تشهد بخلاف ذلك.
يقول (لامارك): «ليست الحياة إلَّا عبارة عن كيفيّة التّفاعلات الفيزيائيّة، وأنّ مظاهر الحياة مُستمَدَّة مِن عِلَلٍ فيزيائيّة وكيماويّة، وأنّ منشأ الحياة يوجد في بدن الحيّ».


لقد كان لامارك يحسب أنّ الروح لو كانت أصيلة لما كانت لها علاقة مع العِلَل الفيزيائيّة والكيماويّة، وكان من اللّازم أن لا يوجد منشأ لها في المادّة الحيّة.


لقد ذكرنا سابقاً أنّ هذه هي النظرية الإثنينيّة لـ «ديكارت» -وهي ترجع في الأصل إلى أفلاطون- وقد كلّفت هذه النظرية الفلسفة ثمناً غالياً، فقد حملت العلماء على أن يفكّروا في انفصال الرّوح عن البدن ويجعلوهما طرفين مُتنافيَين عندما يتعرضون لأصالة الرّوح.


 

معنى التقوى وحقيقتها



لا بدّ لنا لمعرفة معنى التقوى وحقيقتها، من ذكر مقدمة، وهي:

لو أراد إنسان ما أن تكون له مبادئ وأهداف في الحياة، وأن يسير وفق تلك المبادئ للوصول إلى أهدافه المنشودة، فلا بدّ له من أن يختط لنفسه مساراً معيناً لا يحيد عنه مهما نازعته أهواؤه ومصالحه ونزواته إلى ذلك، وبالتالي يكون عليه أن يحافظ على نفسه من الأمور التي تتفق مع أهوائه ونزواته، وتتنافى مع الأصول والأهداف التي اتخذها لنفسه.

ومن هنا نعرف أنّ التقوى بمعناها العام لازمة لحياة
كلّ فرد يريد أن يكون إنساناً، وأن يحيا تحت حكم العقل، وأن يتبع قواعدَ وأصولاً معينة.




وأما التقوى الدينية فهي أن يحافظ الإنسان على نفسه، ويصونها عن ارتكاب كلّ ما يراه الدين خطأً وإثماً وفساداً وقبحاً، وهذه التقوى يمكن أن تتصّور بصورتين:

الأولى: وهي أن يهرب الإنسان من مجتمعه ومحيطه الفاسد الملي‏ء بالآثام والمعاصي، وبهذا الهروب يمكنه الحفاظ على نفسه من ارتكاب المعاصي والآثام والأوزار، كمن يتجنب البقاء في محيط موبوء بالملاريا فيهرب إلى مكان نقي لا مرض فيه.

الثانية: وهي أن يبقى المرء في مثل ذلك المجتمع الفاسد، على أن يوجد في نفسه قوّة وملكة تورثه مناعة روحية وأخلاقية تجعله لا يتأثر بهذه الآثام، ولا يقترب منها، مهما كانت المغريات كبيرة، ومهما كانت جاذبيتها شديدة، كمن يتناول لقاحاً ضدّ الملاريا ويبقى بين المرضى فإنّه لا يتأثر بالمرض أبداً.

 

مراتب المؤمنين ولذة الدعاء



المؤمنون على مراتب:
أ- المؤمن الذي يعتقد بوجود الله سبحانه، ويعرفه معرفة كاملة، لكنّه لا يمتلك حسّ رؤية ألطاف الله وعناياته التي يفيضها في حياته الخاصّة واليوميّة، وهذه المرحلة تسمّى بمرحلة "علم اليقين".

ب- المؤمن الذي فضلاً عن معرفته واعتقاده، فإنّه يشاهد أثر توحيده وتوكّله واعتماده على الله دون غيره، حيث يستشعر استجابة دعائه ويجد أثر التوكل والاعتماد على الله في حياته الخاصّة، وهذا المؤمن يكون في مرحلة "عين اليقين".

ج- المؤمن الذي يرى نفسه في ارتباط مباشر مع الله، بل لا يرى نفسه شيئاً يذكر، وهذا العبد يكون قد وصل إلى مرحلة "حق اليقين".

وهذا المؤمن هو الذي يعيش حقيقة الدعاء ولذّة الإنقطاع إلى الله، فإنّه يمارس فنّاً في العبودية والإيمان





أسمى من فنون الطبّ والهندسة والرسم، ويعيش لذّة تفوق لذّة رؤية مريضه الذي شُفي، أو بنائه الذي شمخ، أو لوحته التي تزهر ؛ فأثر الدعاء لمن يتقنه لط الهيّ يغمر الإنسان، عزّة تهز الشعور، تسامٍ روحيّ يستغرق الذات كلّها، وما يتقن الدعاء إلا ذلك المؤمن الذي صار من أهل القلب النيّر السليم، ومن الذين لم تمتلكهم وتغرّهم هذه الأسباب الظاهرية، فصاروا على ارتباط مباشر مع الله يعتمدون ويتوكّلون عليه.

نسأل الله أن يوفقنا إلى أن ندعوه ونناجيه بتلك الحالة المعنوية السامية.