في اللغة العربية كلمتان متقاربتان في المعنى ، ولكنهما ليستا بمعنى واحد ، وثمة كلمة أخرى هي ضد تينك الكلمتين ، وهي كلمة واحدة لا أكثر ، تستعمل مرة ضده هذه الكلمة ، وتستعمل مرة ضد الأخرى . أما في الفارسية فليس عندنا مرادف لتينك الكلمتين . إنما لدينا كلمة واحدة للمعنيين . واللفظتان العربيتان هما : الكمال ، والتمام . فمرة يقال : كامل ، ومرة يقال : تام ، وضدهما الناقص . هذا كامل وذاك ناقص . وهذا تام وذاك ناقص . وقد وردت كلتا الكلمتين في إحدى الآيات القرآنية :
{ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } سورة المائدة ، الآية 3 .
ولم يقل : أتممت لكم دينكم . يقولون : لو كان قد قال : أتممت لكم دينكم ، لما صح ذلك لغويا . فما الفرق بين هذين ؟ إنَّنا إذا لم نشرح الفرق بينهما ، ولا يتهيأ لنا أنْ نبدأ بحثنا ، إذ أنَّ بحثنا يبدأ بمعرفة معنى هاتين اللفظتين .
تطلق لفظة "التمام" على الدرجات التي يتطلبها وجود جميع الأشياء اللازمة لوجود شيء ما أي إذا لم يوجد بعضها ، فيكون الشيء في ماهيته ناقصا . فهو لم يوجد كله ، بل وجد بعضه . فهذا شيء قابل للزيادة والنقصان ، فيمكن أن يقال نصفه موجود ، أو ثلثه موجود ، أو ثلثاه موجودان . كالعمارة التي يجب أن تبني على وفق خريطة معينة ، كالمساجد مثلا . فلكي يكون المسجد مسجدا يلزمه أن تكون فيه قاعة ، والقاعة يلزمها الجدران والسقف والمدخل . فهو يحتاج إلى أشياء كثيرة أخرى عند البناء فإذا وجدت جميع الأشياء التي يستلزمها بناء المسجد ، بحيث أنَّ عدم وجودها يجعل المسجد غير قابل للاستفادة ، وعندئذ يقال : البناء تام . ويقابله : البناء ناقص .
أما الكمال فهو درجات يمكن أنْ يصل إليها الشيء بعد أنْ اصبح تاما ، درجة بعد درجة . إذا لم يكن هذا الكمال ، فالشيء موجود بتمامه ، ولكن إذا أضيف إليه الكمال ، ارتفع درجة واحدة . يعتبرون الكمال خطا عموديا ، والتمام خطا أفقيا . أي أن الشيء عندما يبلغ نهايته أفقيا يقال انه قد تم ، وعندما يتحرك عموديا ، يكون متجها نحو الكمال . يقال أن فلانا قد كمل عقله ، فهو كان عاقلا قبل ذاك ولكن عقله قد ارتفع الآن درجة . أو يقال علم فلان قد اكتمل ، فهو كان له علم ، وكان يستفيد من علمه ولكنه الآن ارتقى درجة أخرى من درجات الكمال . إنَّ الإنسان الكامل معناه وجود إنسان تام في قبال إنسان لم يزل أفقيا غير تام ، لم يزل نصف إنسان ، كسر إنسان ، ربع إنسان ، ثلث إنسان ، ليس إنسانا تاما . والإنسان يكون تاما ، ويكون قابلا لكي يكون كاملا ، ويكون أكمل ، وأكمل ، إلى ذلك الحد النهائي ، ذلك النهائي الذي لا يكون فوقه إنسان . ذلك هو الإنسان الكامل ، وهو الذي بلغ ارفع حدود الإنسانية .
إنَّ تعبير " الإنسان الكامل " لم يكن له وجود في الآداب الإسلامية حتى القرن السابع الهجري ولكنه اليوم مستعمل حتى في أوروبا . وأول من استعمل هذا التعبير في عالم الإسلام بشأن الإنسان وطرح موضوعا باسم الإنسان الكامل ، هو العارف المغروف ( محي الدين العربي الأندلسي الطائي ) . ومحي الدين هذا هو أبو العرفان والتصرف الإسلامي . أي أنَّ جميع هؤلاء المتصوفة والعرفانيين الذين نعرفهم في جميع الملل الإسلامية ، بما فيهم الفرس والإيرانيين الذين ظهر ذوو الشأن فيهم من القرن السابع فما فوق وفي أوائل القرن السابع ، هم جميعا من تلامذة مدرسة محي الدين . مولوي نفسه أحد تلامذة مدرسة محي الدين . إنَّ مولوي على عظمته لا يعد شيئا مذكورا بازاء محي الدين في مسائل العرفان والتصوف . ومحي الدين العربي يتصل نسبة إلى حاتم الطائي ، ظهر في الأندلس ، ولكنه رحل إلى كثير من الأقطار العربية والإسلامية ، وتوفي في الشام ، وقبره ما يزال هناك أحد تلامذته يدعى صدر الدين غونوي ، برز بعد أستاذه .
وكان من اشهر رجال العرفان . أما التصوف الإسلامي الذي بدأ كعلم غامض جداً ، فهو من عمل محي الدين ، وعليه شروح صدر الدين غونوي . وكان مولوي معاصرا لصدر الدين الذي كان إمام جماعة في أحد المساجد ، فكان مولوي يقتدي يه في الصلاة ، فانتقلت أفكار محي الدين إلى مولوي عن طريق صدر الدين ز أما ما تسمعونه بخلاف هذا حول هذا الموضوع فلا صحة له . إن للتصرف الإسلامي جذورا غير هذه الترهات التي أخذ ينشرها بعضهم هذه الأيام في الصحف والمجلات .
من المسائل التي طرحها هذا الرجل هي مسألة الإنسان الكامل ، ولكنه ، بالطبع ، طرحها من حيث المنظور العرفاني . إلا أنَّه استعمل لفظة الإنسان الكامل وشرحها من وجهة النظر العرفانية الخاصة . إلا أن الآخرين أيضا فسروا الإنسان الكامل بحسب وجهات نظرهم . وهذا الذي نريد أن نشرحه من حيث وجهة نظر القرآن ، لكي نعرف كيف ينظر القرآن إلى الإنسان الكامل . وهذا يقتضينا ، بالضرورة ، أنْ نبدأ بالكلام على الإنسان التام والإنسان الناقص ، لأننا ما لم نطو هذه المرحلة لا يمكن أن نصل إلى تلك المرحلة .
هنالك إنسان سالم وإنسان معيوب ، وهي سلامة وعيب يرتبطان بجسم الإنسان ، فمما لا شك فيه أن هناك إنسان سالم جسميا ، وآخر معيوب جسميا . إلا أن هذا يخص الإنسان . أي أنَّ الإنسان إذا كان أعمى ، أو أخرس ، أو أشل ، أو قصيرا ، فإنك لا تعتبر أيا من ذلك نقصا في فضيلة الرجل ولا في إنسانيته وشخصيته ، فسقراط ، الفيلسوف اليوناني المعروف ، الذي يعتبره بعضهم من الأنبياء ، كان من اقبح الناس وجها ، إلا أنَّ أحد لا يعتبر ذلك عيباً في سقراط . أو أن أبا العراء النعري الفيلسوف كان أعمى ، وطه حسين من المعاصرين كان أعمى أيضاً . فهل هذا العمى نقص في شخصيتهما وعيب فيهما ؟ كلا ، ليس الأمر كذلك . وهذا نفسه دليل على أن في الإنسان شيئين . له شخصيتان : جسمية وروحية . له جسم ونفس . وحساب النفس غير حساب الجسم . وإنَّ القول بأنَّ نفس الإنسان تابعة للجسم ، إنَّما هنا يظهر أنَّه خطأ مائة بالمائة . خذ مثلا : هل يمكن أن تكون نفس مسألة قائمة بذاتها .
إنَّ الذين ينكرون الروح مباشرة وبغير وساطة ، ناشئة من الجهاز العصبي ، ولا يرون للنفس وجودا أصلا ، ويقولون إنَّ كل شيء تابع للجسم ، فإذا كانت نفسية المرء مريضة فجسمه هو المريض حتما وهو السبب فالمرض النفسي هو المرض الجسمي .
ولكن من حسن الحظ أنه قد القي مؤخرا ضوء أكثر على أنَّ الإنسان يمكن أنْ يكون جسميا سليما . فمن حيث دمه ، وعدد كرياته البيض والحمر ، ومن حيث جهازه العصبي ، وكمية الفيتامينات فيه ، يكون الجسم سليماً طبياً ، ولا يكون في أعصابه أي مرض ، ومع ذلك يكون نفسيا مريضا كأن تكون فيه ، كما يقال اليوم ، عقدة نفسية . يقول العلم المعاصر إنَّ من به عقدة نفسية فهو مريض ، أي أنَّ هناك اختلالا في جهازه النفسي ، بغير أنْ يصاحبه أي خلل جسمي ، ولهذا السبب فإن علاج هذا الاختلال النفسي لا يكون دواءا ماديا . فمثلا إذا كان أحد مصابا بعقدة التكبر - وهي قد ثبت أنَّها مرض واختلال نفسي وروحي فهل يمكن العثور على دوائه في الصيدليات ، وانه إذا تناول ذلك الدواء يتغير تكبره إلى تواضع ؟ أو هل يمكن تحويل إنسان قاسي القلب سفاح ، بالأقراص والحقن ، إلى إنسان رحيم عطوف ؟ بل إنَّ الافتقار إلى ذلك يوجد الأمراض في الإنسان .
إنَّ الذي يحس بالحقد على شخص آخر ، يتمنى لو انتقم منه ، ولا يقر له قرار حتى يورده موارد الهلاك .
فما هي هذه الرغبة في الانتقام في الإنسان ؟ هذا أمر قائم بذاته . إنَّ الحسود عندما يرى النعمة في الآخرين يتمنى بكل جوارحه أن تزول تلك النعمة عنهم ، بغير أنْ يريدها لنفسه .
أما الإنسان السليم فإنه يغبط الآخرين ، ولا يحسدهم . إنه يفكر في نفسه ويسعى لكي يسبق الآخرين . إذا فكر الإنسان أن يكون دائما متقدما ، فإنه يكون سليما ، إذ أن ذلك لا يكون عيبا فيه . أما الذي لا يفتأ يدعو أن يتأخر فلان ، فإنّه مريض . وقد تشاهدون أحيانا إنسانا حسودا يصل به الأمر إلى حيث أنه يرتقي لنفسه أنْ يصاب بمئة مصيبة إذا أصيب الذي يحسد بخمسين .
هناك قصة تاريخية معروفة في كتب التاريخ . يقولون : في عهد أحد الخلفاء كان هناك رجل ثري اشترى غلاماً ، ولكنه منذ البداية لم يعامله كما يعامل الغلمان ، بل أخذ يعامله معاملة السادة ، فيقدم له ألذّ الأطعمة ، ويلبسه أغلى الملابس ، ويهيئ له افضل وسائل الراحة ، وكأنه ابنه ، بل وبأفضل من معاملته لابنه ، بما في ذلك منحه مبالغ كبيرة من المال ، إلا أن الغلام كان يرى أن سيده دائم التفكير كثير القلق ، حتى إنه قرر أخيرا أنْ يعتقه ويهبه رأسمالاً كبيرا . وفي ليلة جلس يشكو للغلام ما ينتابه من هم وغم . قال له : إنَّني على استعداد لعتقك ، و لإعطائك كذا مقدار من المال ، ولكن أتدري لم قمت لك بكل هذه الخدمات ؟ فقال : لا . فقال : لطلب واحدا أريدك أنْ تنفذه ، وإذا نفذته فحلال عليك كل الذي أعطيته لك ، وإذا لم تنفذه فلن ارض عنك . وإذا وعدت بتنفيذه فسوف أعطيك أكثر . فقال الغلام : عليك الأمر وعلي الطاعة ، فأنت ولي نعمتي ، ووهبتني الحياة . فقال : كلا . عليك أنْ تعدني وعداً قاطعاً ، لأني أخشى إذا كشفت لك الأمر أنْ ترفض . فقال : أبدا ، قل ما بدا لك . وإذا وثق الرجل لكلام الغلام ، قال له : إنني سوف آمرك في مكان معين وفي ظرف خاص أنْ تخزَّ رقبتي من الوريد إلى الوريد . فقال الغلام : ما معنى هذا ؟ فقال : هذا هو طلبي . فقال لا يكون شيء كهذا . فقال : بل يكون ، لأنك قد وعدتني ، ولا بد أنْ تفي بوعدك . وعند منتصف إحدى الليالي أيقظ الغلام وناوله سكينا حادة ، وتقدم على أطراف أصابعه صاعدا إلى سطح دار جاره ، وناول الغلام كيسا من المال ، ونام على السطح وقال له : الآن اقطع رأسي واذهب إلى حال سبيلك . فسأله الغلام : لماذا ؟ فقال : لأني لا أتحمل رؤية هذا الجار ، فالموت أحب إليّ من الحياة مع هذا الإنسان الذي يتقدمني في كل شيء ، وكل ما عنده خير مما عندي . كنا نتنافس فسبقني . إنَّني احترق في النار . أريد أنْ اتهمه بجريمة قتل تلقي به في السجن . فإذا حصل هذا فسوف ارتاح . هذا كل شيء . فإذا قتلت هنا في دار منافسي ، فغدا عندما يسألون : من الذي قتله ؟ سوف يقال منافسه هو الذي قتله ، خاصة وأنّه وجد على سطح داره . فيقبضون عليه ويسجنونه ، ثم يعدمونه فتتحقق أمنيتي . فقال الغلام : مادمت على هذه الدرجة من الحماقة ، فلماذا لا أفعل انك تستحق القتل فعلا . وقتله ، واخذ كيس المال وانصرف .
وانتشر الخبر ، وقبض على المنافس والقي في السجن ثم خطر لهم إنه إذا كان هذا هو القاتل حقا لما قتله على سطح داره . وتعقدت القضية ولم يعرفوا لها حلا . أما الغلام فراح ضميره يؤنبه حتى حمله على التسليم للحكومة وكشف لهم عن حقيقة الحادث ، وقال : إنني قتلته بناء على طلبه ورغبته ، لأنه كان يشتعل في نار حسده اشتعالاً فضّل معه الموت على الحياة . فصدقوه ، و أطلقوا سراحه وسراح منافس القتيل .
تلك هي حقيقة ، وهي مرض فعلا ، فالمرء يصاب بمرض الحسد . ولقد جاء في القرآن :
{قَدْ افْلَحَ مَنْ زكّاهَا وَقَد خَابَ مْنْ دَسّاهَا } سورة الشمس ، الآية 9 و 10 .
وعليه ، فإن أول خطوة في منهج القرآن هي تزكية النفس ، وتهذيبها ، وتطهيرها من الأمراض والعقد ومن الظلام ، ومن القلق ، ومن الانحراف ، بل ومن المسخ ، وهي مسألة مهمة جدا . فما معنى المسخ ؟ لعلك قد سمعت أن في الأمم القديمة كان أناس قد ارتكبوا الكثير من الإثم ، فدعا عليهم نبيهم فمسخوا ، أي تحولوا إلى حيوان ، إلى قرد ، أو ذئب ، أو دب ، أو أي حيوان آخر . هذا يقال له المسخ . فلننظر ، هل حقا مسخ الإنسان وتحول إلى حيوان .
هنا ينبغي أنْ نقول أنه حتى إذا فرضنا أن الإنسان لا يمسخ جسميا إلى حيوان ، ولكن الذي لا شك فيه هو أنَّ الإنسان يمكن أنْ يمسخ روحياً ونفسياً ويتغير إلى حيوان ، بل قد يتحول إلى نوع من الحيوان ليس في العالم أحط منه وأقذر . { بِلْ هُمْ أضَلُّ } سورة الأعراف ، الآية 179. كما يكون هذا ؟ أيصح أنْ يتحول الإنسان روحياً إلى حيوان ؟ نعم ، لأن شخصية الإنسان كإنسان تتجلى في خصائصه الأخلاقية والنفسية متسمة بالخصائص الإنسانية في الخلق والنفسية ، بل اتسمت بخصائص حيوان مفترس ، أو بهيمة ، واخلاقيته فهذا هو المسخ . وهذه هي الحقيقة ، فإنها روحه التي مسخت . أن الخنزير الذي نراه فيه تناسب بين روحه وجسمه . فقد تكون جميع خصاله الإنسان أشبه بخصال الخنزير ، فهذا يكون قد انسلخ من الإنسانية ، واصبح في المعنى وفي الباطن وفي عين الحقيقة وفي الملكوت خنزيراً حقاً ولا شيء غير ذلك .
وعليه ، فإن الإنسان المعيوب قد يصل إلى أنْ يصبح إنساناً مسخاً . هذه أمور قلما نسمع عنها وقد يحسبها بعضهم من الأمورالمجازية فلا يصدقونها ، ولكن تلك هي الحقيقة . قال رجل كنا مع الإمام السجاد (ع) ذاهبين إلى مكة . في صحراء عرفات نظرنا فإذا بالحجيج يعدون بالآلاف ، وقال الرجل أنه رأى الناس ، من مكانه المرتفع ، وكأنها أمواج تموج ، فالتفت إلى الإمام قائلاً : ما أكثر الحجيج فقال الإمام : "مَا أَكْثَرَ الضَّجِيِجَ وأَقَلَّ الحِجيجَ " سفينة البحار ، ج2، ص71 . إثبات الهداة ج5 ، ص39 . ويقول الرجل : لا أدري ما فعله بي الإمام والنظرة التي اوحاها الي ، والعين التي فتحها لي ، إنما قال لي : الآن انظر . فنظرت وإذا بالصحراء مليئة بحيوانات من مختلف الأنواع كحديقة الحيوانات ، وبينهم بعض الأشخاص يتحركون . وقال الإمام : ها أنت ترى باطن القضية . هذا أمر واضح وضوح النهار عند أهل المعنويات وأهل الباطن ، وأما إذا لم يشأ العقل المتجدد قبول ذلك فهو على خطأ ، ففي زماننا هذا يوجد أناس يستطيعون أنْ يدركوا الإنسان على حقيقته ، وأنْ يروا أن الإنسان شبه بذي الأربع ، الذي لايفهم شيئا سوى الأكل والنوم والجنس ، ولا يمكن أن تختلف روحه عن أرواح ذوات الربع ، وإن باطنه قد مسخ ، أي أنَّ الحقائق الإنسانية وإنسانيته قد سلبت منه كليا ، واستبدل بها ، بيده ، الصفات الحيوانية . نقرأ في سورة " عمَّ " :
{ يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا وفتحت السماء فكانت أبوابا وسيرت الجبال فكانت سرابا } سورة عم يتساءلون ، الآيات 18 و 19 و 20 .
ويكرر القادة من رجال الدين أنَّ فوجاً واحداً فقط من الناس يحشرون على هيئة إنسان ، وإما الأفواج الأخرى فهي على هيئات الحيوانات ، فبعض بهيئة النمل ، وبعض بهيئة القرود ، وبعض بهيئة العقارب وبعض بهيئة الأفاعي ، وبعض بهيئة النمور . لماذا ؟ هل يمكن أن تحوّل هيئات الناس إلى حيوانات بغير سبب ظ كلا . إنَما هذا يعنى أن من كان في الدنيا على غرار العقرب ، لا هم له سوى اللسع ، ولا يلذ له إلا إيذاء الناس ، يحشر على صورته الحقيقية . والذي كان عمله في الدنيا لا يتعدى ما يفعله القرود لا شك يحشر يوم القيامة على هيئة القرود ، لأنه قرد بصفاته . والذي كان كالكلب ، يحشر على هيئة الكلاب ، وذلك لأنه " يحشر الناس على نياتهم " . فما في الناس من نوايا وخصال وصفات وأهداف وأمنيات حقيقية هي التي يحشرون بها يوم القيامة . فما انت في هذه الدنيا ؟ وما الذي تريد أن تكونه وما الذي تريده ؟ هل طلباتك طلبات إنسان ؟ أم إنها طلبات حيوان مفترس ، أو طلبات طائر ؟ مهما تكن طلباتك تكن مثل صاحبها الذي تحشر على شاكلته . ولذلك فإننا منهيون عن كل العبادات عدا عبادة الله . فما نعبده نكون مثله . فإذا كنا نعبد المال أصبح المال جزءا من ماهيتنا ومن وجودنا ، وهذا المال يوم القيامة هو ذلك المعدن الذائب الذي يقول عنه القرآن :
{ والّذين يكنزون الذَّهَبَ والفِضَّة ولا ينفقونها في سبيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذاب أليم . يومَ يحمى عَلَيْهَا في نار جهنم فتكوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ هذا ما كنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ } سورة التوبة الآيتان 34و35 .
فهذه هي التي تحمى وتكون ناره . لا تقولوا أن النقد المعدني قد زال وحلت محله العملة الورقية . كلا . لكل شيء في الآخرة ماهيته الخاصة به ، فالعملة تظهر في الآخرة على هيأة نار ناشئة من الأصفر والأبيض والتي يشتد اكتواء الإنسان بها . فهذه هي ما تسخ الإنسان وعليه فالإنسان المعقد إنسان معيوب . إنَّ الإنسان الذي يعبد مادة ما يكون إنسانا معيوبا مسخا إنِّ الكمال في كل مخلوق يختلف عنه في المخلوق الآخر ، فالإنسان الكامل ، مثلا ، غير الملك الكامل . فإذا كان الملك في ملائكيته يمكن أنْ يصل إلى الحد الأعلى من حدود كماله ، فإنه يختلف عن الإنسان وهو في عالم إنسانيته ، عندما يصل إلى الحد الأعلى من الكمال الإنساني ، وذلك لأن الذين ، علمونا بوجود الملائكة قالوا لنا أن الملائكة مخلوقون من العقل المحض ، الفكر المحض ، أي إنهم ليس فيهم أي جاني أرضي ، مادي ، شهواني ، غضبي ، وأمثال ذلك .
وهكذا الحيوانات ، فالحيوانات أرضيين صرفا مجردين مما يدعوه القرآن بالروح الإلهية . إنما الإنسان هو الكائن المركب من العناصر الملائكية والعناصر الأرضية . إنه كائن ملكوني وفلكي . إنه كائن علوي وسفلي ، وهذا هو نص الحديث الوارد في "الكافي" :
" إنَّ الله تعَالَى خَلَقَ المَلائِكَةَ وَرَكَّبَ فِيهمْ العَقْل ، وخَلَقَ البَهَائِمَ وَرَكَّبَ فِيها الشَّهْوَة ، وخَلَقَ بني آدَمَ وَرَكَّبَ فيهمْ الْعَقْلَ والشَّهوَةَ . فَمْنْ غَلَبَ عَقْلُهُ عَلَى شهْوَتِهِ فَهُوَ أَعْلى مِنَ الملاَئِكَةِ ، ومَنْ غَلَبَ شَهْوتهُ عَلى عَقلِهِ فَهُوُ مِنْ البهَائِمِ " اصول الكافي - تفسير الصافي - علل الشرايع . وقد وردت هذه الرواية عند أهل السنة بألفاظ مقاربة .
ثم يقول إنَّ جمعا قد خلقوا من النور المطلق ، وجمعا من الغضب والشهوة ويقصد بهم الحيوانات أما الإنسان فقد خلقه الله مركبا . فالإنسان الكامل الذي يختلف عن الحيوان الكامل ، عن الحصان الأصيل الكامل ، كذلك يختلف عن الملك الكامل . إنَّ اختلاف الإنسان عن أولئك متأتٍ من اختلاف تركيب ذاته :
{إنَّا خَلَقْنا الإنْسَانَ مَنْ نُطُفَةٍ أمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ } سورة الدهر ، الآية 2 .
أي أنَّ الله خلق الإنسان من نطفة حفظ فيها الكثير من القابليات أو الاستعدادات أو " الجينات " بالمصطلح المعاصر ، وإنها قد بلغت مرحلة وضعها الله خلالها موضع الاختيار ، أي إنها قد بلغت حدا من الكمال بحيث أنّه خلقه حراً له حرية الاختيار ، جديرا بتحمل مسؤولية التكاليف ، ووضعه في معرض الابتلاء والامتحان والحصول على الدرجات . ولأن نطفته امشاج ، مزيج من التسبيحات والتفاعلات المختلفة ، فقد عرّض للامتحان وللتقدير وللثواب وللعقاب ، أما الكائنات الأخرى فليست لها تلك الجدارة .
{فَجَعلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً . إنّا هَدَيْناهُ السَّبيلَ إما شَاكَراً وإمّا كَفُوراً } . سورة الإنسان ، الآية 2و3 .
لا يمكن التعبير عن حرية الإنسان في الاختيار ، وأصل حريته في الاختيار ومبناه بأفضل وأجمل من هذا التعبير : لقد اختبرناه ، وجعلناه يسمع ويبصر ويدرك ، وأريناه الطريق ، وله بعد ذلك بملء اختياره أنْ يسير فيه أوْ لا يسير . { إنّا هَديْناهُ السَّبيلَ إمّا شاكَراً وإمّا كَفُوراً } عندئذ ، هذا الإنسان الكامل ، الإنسان الذي يقول القرآن { خَلَقْناهُ مِنْ نُطفَةٍ أمْشاَجٍ } يختلف انسانه الكامل ، لهذا السبب عن الملك الكامل ، فكمال الإنسان يكمن في تعادله وتوازنه ، أي أنه بالنظر لوجود كل هذه الاستعدادات والقابليات المختلفة فيه ، ينبغي ألا يتمسك بواحدة منها فقط ويهمل سائر قابلياته ويعطلها عن العمل فالإنسان الكامل هو الذي يعني بها جميعا ويربيها وينميها معا في حالة متعادلة ومتوازنة ، إذ إن العلماء يقولون إن حقيقة العدل ترجع إلى التوازن والتجانس . والتجانس هنا يعني أنَّه في الوقت الذي تنمو فيه جميع قابليات الإنسان ، يكون هذا النمو بصورة متجانسة .
والآن اضرب لكم مثلا بسيطا . فالطفل ينمو ويكبر ، وللطفل يد ورجل ورأس وفي رأسه عينان وأنف وفم وأسنان وله أحشاء وأمعاء . فهذه كلها في الطفل السليم تنمو وتكبر في انسجام وتجانس . والآن فلنتصور حالة كاريكاتورية ، كما في الصور ، إن شخصا لا ينمو منه إلا عضو واحد ، انفه مثلاً هو الذي يكبر دون سائر الأعضاء بحيث يصبح انفه بحجم جسمه أو أن عينيه فقط يكبران ، أو رأسه فقط ويبقى جسمه صفيرا ، أو تنمو يداه ولا تنمو رجلاه ، أو تنمو قدماه ولا تنمو يداه ، فهذا نمو غير متجانس . الإنسان الكامل هو الذي تنمو جميع قيمة الإنسانية معا بإنسجام وتناسب ، ولا تختلف واحدة عن أخرى في النضج والنمو حتى تبلغ أعلى مستوياتها ، عندئذ يكون هذا إنساناً كاملاً ، ويصبح ذلك الإنسان الذي يصفه القرآن بأنه الإمام :
{ وإذْ ابتلى إبْراهِيمَ رَبُّه بِكَلِماتٍ فأتَّمَهُنَّ قَالَ إنّي جاعلُكّ لِلْنَاسِ إمَامَاً قَال ومنْ ذُرِّيَّتي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ } سورة البقرة ، الآية 124 .
فإبراهيم بعد أن اجتاز اختبارات ربه العظيمة المتنوعة وأتمها ، ونجح في كل تلك الامتحانات بدرجات عالية ، وهي لم تكن امتحاناً واحداً ولا اثنين ولا ثلاثة ولا أربعة ، بل كانت امتحانات عظيمة كان واحدا منها أن يعد العدة لذبح ابنه بيده في سبيل الله .
هذا هو التسليم ، بعد أنْ عرف أن الذي يأمره بذلك هو الله ، فاستعد لتنفيذ الأمر بغير اعتراض . وعندما حان الحين ، وبعد أن تهيأ إسماعيل نفسه للذبح ، يأتيه نداء ربه :
[ ونَادَيْناهُ أنْ إبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا } سورة الصافات . الآية 104 .
نعم ، إنَّ الأمر قد انتهي ، وإنَّ ما كنا نريده منك هو هذا التسليم لأمرنا والرضا بقضائنا إلى هذا الحد . فبعد أن اجتاز إبراهيم كل تلك الاختبارات ، من الالتقاء في النار حتى اخذ ابنه للذبح وخرج منها فائزا بمفرده ، ويتضح :
{ إنَّ إبْراهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً للهِ حَنِيفَاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِيْنَ } سورة النحل ، الآية 120 .
إنَّه ينافح قوما بمفرده ، فيقول له الله { إنّي جَاعُلكَ لَلنَاسِ إمَامَاً } فقد بلغت مرحلة تكون فيها قدوة إماماً ، رائداً ، نموذجاً للآخرين الذين يريدون أن يبلغوا كمالهم أنْ يتخذوك مثلا ويحذون حذوك .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق