الجمعة، 25 مايو 2012

المدد الغيبي في حياة الانسان - الشهيد مرتضى مطهري


تمهيــــــد

موضوع البحث: الإِمدادات الغيبيّة في حياة البشر.


وقد أحسستُ بأنّ هذا العنوان، سوف يثير في الأذهان الكثير من التصورات، فإنّهم سيتخيلون بأنّني سأطرح مجموعةً من الخرافات؛ وهو إنّما يدلّ على سذاجة مثل هذه الذهنيات، التي تتصور بأنّني سأبحث هنا حول تسخير الجنّ، والطلسمات وغيرها.
ويقيناً أنّ البعض حين يطرق سمعه هذا العنوان: (الإِمدادات الغيبيّة)؛ سيقول: ما معنى البحث حول المدد الغيبي في هذا العصر، عصر العلم والتجربة الذي أخضع كُلّ شيء، للمشاهدة والحسّ، واللمس، لا مجال للبحث، في عصر النور حولَ الغيب، وما وراء الستار وكل ما وراء الطبيعة.

ولكن الأمر على العكس من ذلك؛ فإنّ الاعتراضات والتصورات، والادّعاءات، بأنّه لا معنى للبحث حول مسائل الغيب، والإمدادات الغيبية، في عصر النور والعلم، وأنّ هذا البحث لا يتلائم مع العلم والروح العلمية؛ إنّ هذه الاعتراضات ناشئة من الجهل؛ بل، مِمّا هو أقبح من الجهل.
ولكن، هل هناك ما هو أقبح من الجهل؟
أجل أنّه الجمود، كما هو الأمر في المجال المالي، فهناك ما هو أكثر تعاسة من الفقر؛ وهو الغرور، وثقة الإِنسان المفرطة بممتلكاته؛ أي: اعتقاده بأنه لا يحتاج مع هذه الثروة لكُلّ شيء حتى للعمل والفكر، وهذه الحالة أتعس من الفقر، فإنّ مستقبلها أكثر خطورة من مستقبل الفقر.
الجهل قبيح، لأنّه عدم العلم وفقدانه؛ ولكن هناك الكثير من الجهلاء؛ والفاقدين للعلم والمعرفة الذين يندفعون لتحصيل العلم بكل شوق؛ وهناك الكثير من العلماء، الذين يصيبهم الغرور والخُيَلاء بعلمهم، وهذا الغرور يؤدّي إلى وجود عالَمٍ ملئ بالجهل والظلام، فإنّ علمَ البشر ضئيل جداً، بالنسبة للحقائق التي يحفل بها الكون.
قال تعالى: { مَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}(الإسراء/85).

إنّ العالم الحقيقي، هو الذي يعترف بجهله، وعدم معرفته للكثير، إنّه لا ينكر وجود شيء بدون دليل: إذا كان العالم جامداً مغروراً، فهو ليس بعالم.
إنّ العالم الذي يتقبل الشيء، أو يرفضه بدون دليل؛ مثل هذا العالم لا يمتلك الروح العلمية؛ إنّه مجرد مستودع، فحسب لمجموعة من المعارف، وآلة تسجيل، قد سجّلت كل ما تعلمته وعرفته؛ ولكن لا يوجد في روحه، ذلك النور، والمقياس السليم للقبول والإِنكارِ، إذنْ فليست روحه علمية.
إذا رأيتم قد حاز على العديد من الشهادات العلمية في مختلف العلوم، ولكنه يتقبل الآراء أو يرفضها، بدون دليل؛ فاعلموا بأنه ليس عالماً حقيقياً، فإنّ العلم في ذاته لا يلازم الجمود والغرور، إنّ العالم يخضع ويستسلم للحقائق، ويتأنّى بشدةٍ في القبول والإنكار.
إذن فالجمود الذي هو أكثر قبحاً من الجهل، هو الروح المعارضة والمناوئة، للدقة والتحقيق، هو الحالة التي تسلب من الإِنسان أقدس روحيّةٍ، وهي روحيّة التحقيق، ويُمكن القول بأنّه، كما أنّ الجمود أكثر قبحاً من الجهل.


   وكذلك إنّ حس التحقيق أكثر قداسة من العلم نفسه، فإنّ العلمِ إنّما يُعتبر مقدّساً ومحترماً، حين يُلازم روح التحقيق، وإنّما تتوافر روح التحقيق، حين يعترف الإِنسان بأنه ناقص في علمه وثقافته.
وهناك حديثٌ حول تقسيم العلم لثلاثِ مراحل؛ ومضمون هذا الحديث، بأنّ العلم ثلاثة أشبار: حين يصل الإِنسان للشبر الأوّل من العلم، يصيبه الغرور والتكبّر؛ وحين يصل إلى الشبر الثاني يصبح متواضعاً، حيث يرى بأنّ معلوماته ضئيلة جدّاً تجاه المجهولات؛ وحين يصل إلى الشبر الثالث، يعلم بأنّه لا يعلم أيّ شيء؛ ويقول: قد اتّضح لي، بأنّني لا أعلم شيئاً.

ولإبن سينا رباعية مشهورة باللغة الفارسية يقول فيها:
القلب وإنْ سار في هذه البيداء كثيراً، ولكنه لم يتعرّف ختى على شعرةٍ واحدةٍ.
لقد أشرقتْ في قلبي أكثر من ألف شمس، ولكنّ هذا القلب في النهاية، لم يتوصّل إلى التعرّف على كمال ذرةٍ واحدة.
وانشتاين أعظم فيزيائي، ورياضي، يقول في كتابه: (الخلاصة الفلسفية للنظرية النسبية): إنّ  الإِنسان حين تعرّف على الفيزياء الحديثة، علم بأنّه لم يصل إلي ألف باء كتاب الطبيعة؛ فهو كالطفل الذي دخل جديداً للمدرسة الابتدائية، والذي لم يتعرّف إلاّ على ألف باء اللغة؛ وكم هي المدة التي سيستغرقها لقراءة، وفهم الكتب العلمية بتلك اللغة؛ والبشر كذلك، يحتاجون إلى مثل هذه المدة أو أكثر، لقراءة كتاب الطبيعة وفهمه).
واستهدف من هذا البحث، التأكيد على أنّ الدين لم يقف في وجه العلم؛ بل، إنّه كان عاملاً محرّكاً للعلم باتجاه التحقيق.

يقول ويليام جيمز: (إنّ الدين يؤشّر على بعض الأمور والأشياء، التي لا طريق للعلم والعقل لمعرفتها؛ ولكن، هذه المؤشّرات هي التي حفّزت العلم والعقل على التحقيق، وبالتالي قد توصّل الكثير إلى الاكتشافات والإِختراعات في مختلف الميادين. وقد اعترف العلماء اليوم بهذه الحقيقة، بأنّ الدين هو المـُحفِّز الأَوّل، على الكثير من المسائل العلمية التي توصّل إليها البشر..

تعريف الغيب

الغيب عبارة عن الأمور الغائبة عن الحواس الظاهرية، وقد استعمل القرآن الكريم هذه اللفظة

كثيراً، كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}(البقرة/3)، {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ}(الأنعام/59)؛ وربما استعمل الشهادة معها: {عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}(الزمر/46).
وقد استوحى فلاسفة الإِسلام من هذا التعبير القرآني، فأصلحوا على الطبيعة بعالم الشهادة، وعالم الملكوت بعالم الغيب.
وتكفي حواسنا في الاعتقاد والإِيمان بعالم الشهادة؛ بل، إنّما سُمّي هذا العالم بالشهادة، لعلاقته الوثيقة بحواسنا، فهو محسوس وملموس لنا، فلا نحتاج إلى الدراسة والتعلم، لتكوين الإِيمان بوجود هذا العالم.

وإنّما نحتاج إلى الدراسة والتحقيق، للتعرف أكثر على حقائِقهِ؛ ولكن، هذه الحواس لا تُجدي وحدها، في التعرف والإِيمان بعالم الغيب؛ بل، نحتاج في ذلك للعقل، الذي هو مرتبة من الغيب في وجودنا؛ ونحتاج أيضاً، إلى قوّةٍ أكثر خفاء اً لشهود الغيب.
يقول المولوي: الجسم ظاهر، والروح خفيّة، الأجسام كالأكمام، والأرواح كالأيدي، والعقل أكثر خفاء ا من الروح، والحسّ يصل إلى الروح بصورة أسرع، وروح الوحي أكثر خفاء اً من العقل، فإنّه غيب، بينما العقل يطلع رأسه ويبرز.
إنّ الحسّ الذي نتعرّف به على الحق، ويتجلّى من خلاله الحق، ليس هو الحس الدُنيويّ، هو من نوع آخر.

للإنسان فهم وروح أُخرى، غير الروح والفهم لدى الحمار والبقر، وأيضاً غير الفهم والروح الآدمية، هناك فهم آخر مختصّ بالنبي والولي؟
وقد بُعث الأنبياء لتوجيه البشر ودفعهم إلى الإِعتقاد بعالم الغيب، ولم يكتف الأنبياء بتوجيه البشر إلى الاعتقاد بوجود الغيب؛ بل إنهم بُعثوا لتكوين العلاقة بين البشر والغيب، هم حلقة الوصل بين البشر وعالم الغيب؛ بُعثوا لأجل أنْ يؤمن البشر بالإِمدادات الغيبية، والفيوضات الغيبية الخاصة، التي تُفاض وفق شروطٍ خاصة، ومن هذا الجانب تكون لِمسألة الغيب علاقة بالواقع العملي التطبيقي للإِنسان.

ستار الغيب

قلنا: بأنّ الغيب يعني ما وراء الستار، فكيف أُسدل الستار بيننا وبينه؟
وما هو الستار؟
وهل يوجد ستارٌ وحجاب حقّاً، لابُدّ من انكشافه حتى نطّلّع على الغيب؛ أو أنّ هذه التعابير كنايات عن مفاهيم أُخرى؟
وقد استعمل هذا المعنى في القرآن الكريم حول القيامة، كما في قوله تعالى: { فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}(ق/22). والإِمام أمير المؤمين (عليه السّلام) يقول- كما نسب إليه-: (لو كُشِفَ لي الغطاء لَما ازدَدْتُ يقيناً).
ومن المُسلَّم به أنّ هذا الستار ليس مادياً وجسميّاً؛ بل، هو حجاب المحدودية، محدوديّة، فإنّ حواسنا لا تُدرك إلاّ الأمور النسبية المحدودة.
المحدود واللامحدود
الموجود على قسمين- بحسب الإِفتراض الأوّلي لعقلي-: المحدود واللامحدود؛ وإذا تعرفنا على المَحدود، سيتضح اللامحدود بنفسه.

أنت تجلس هنا، فتشعل نقطةً معيّنةً، ومقداراً معيّناً من الفضاء، فلا توجد في نقطـةٍ أُخرى، وفي مكانٍ آخر؛ وإذا رغبت في أنْ توجد في موضع آخر، فعليك بترك هذا الموضع والانتقال، فلا تستطيع في الوقت الواحد، أنْ توجد في موضعين؛ لذلك تكون من حيث المكان محدود اً بمكانٍ خاصّ، وهكذا الأمر من حيث الزمان، فنحن موجودون في هذا الزمان، ولكنّنا غير موجودين في الأزمنة السابقة، أو اللاحقة.
ولكن، لو كان هناك موجود، غير محدود، من حيثُ المكان والزمان؛ أي لا يخلو أيّ زمانٍ ومكان منه، فهو موجود في كُلّ زمانٍ ومكانٍ؛ بل هو محيط بالزمان والمكان، فمثل هذا الموجود تكون حواسنا عاجزةً عن إدراكه، وإنّما نرى شيئاُ معيّناً؛ لأنّه موجود محدود، وله جهة معيّنة، ويقبل الإِشارة إليه، وله شكلٌ معين.

وأمّا لو كان غيرَ محدود، وليس له شكل ولا جهة معينة، فإنّنا لا نتمكن أنْ نراه أبداً، وإنّما نسمع صوتاً خاصاً؛ لأنه قد يوجد، وقد لا يوجد.
وأمّا لو وجد صوت ممتدّ، مستمرٌّ لا يسكت أبداً،
ويطرق أسماعنا دائماً، فلا يمكن لنا أنْ نسمع مثل هذا الصوت.
يقول الغزالي ما توضيحه: بأنّنا نرى النور ونعرفه، لأنّه قد يوجد وقد لا يوجد؛ هو موجود في مكان ، وغير موجود في مكانٍ آخر؛ وأمّا لو كان النور شائعاً في العالم كله، وبصورة دائمة، ومستمرة، وشاملة، فلا توجد أيّ ظلمة، أو أُفول أبداً، فحينئذٍ يكون الشيء الذي لا نعرفه هو النور، الذي هو أظهر الأشياء، والمظهر والمعرِّف، لسائر الأشياء الأُخرى؛ إذن فإنّنا نعرف النور بمعونة ضدّه، وهو الظلمة.
يقول محمد شبستري العارف المعروف: "إذا كانت الشمس في حالـةٍ واحدةٍ، وتشرق بصورةٍ دائمةٍ ومستمرةٍ، لكان شعاعها على منوالٍ واحد، ولم يعلم أحدٌ بأنّ هذا شعاعها، ولم يكن هناك تفاوت بين الجلد والعقل.
العالم كله فيض من فيوضات الحقّ، ولكن لكثرة ظهورِ الحقّ مخفيّاً.
وبما أنّ نور الحقّ ليس فيه انتقال وتحولْ، لذلك يلزم أنْ لايكون فيه تغيير وتبديل".
وهذا ما يعنيه قولهم: (تُعرفُ الأشياءُ بأضدادها)؛ فإنّ ذلك مختصٌّ بالأمور الخاضعةِ للحواسّ، والتي نتعرّف على وجودها بواسِطة الحواسّ.
وأهل العرفان يقولون: بأنّ الله أصبحَ خفيّاً، لِفرِطِ وجوده وكثرتِهِ، أي أنّ حيثية الظهور والخفاء واحدة فيه؛ هو خفي، لأنّه ليس له غياب وأفولٌ وغروب، ولا يخلو منه أيُّ مكان.
يا من اختفى لِفرط نورِه        الظاهر الباطن في ظهوره
وفي الأدب الفارسي يمثلون لهذه الفكرة بمثالٍ رائع مثال السمكة وحديثها عن الماء:-
(كانت سمكة تسبح في الماء. وكان فكرُها مثلي ناقصاً.
لم تعرف يوماً الخوف والقلق من الصيّاد، ولم تمر بأوجاع الشِباك وآلامه.
ولم تتألّم روحها من العطش، ولم يحترق قلبها من الشمس المحرقة.
وفي يومٍ ما، كانت مستغرقة بهذه الفكرة إنّ الناس يقولون دائماً: الماء، ولكن أين الماء؟

أين ذلك الإِكسير الذي يبعث الحياة في الطير والسمك؟
إذا كانت هذه الجوهرة الفريدة هي غذاء الحياة، فلماذا يا ربّ قد أخفيتها عن عيني؟
 إنّ هذه السمكة لا يلوح لنظرها غير الماء في عمرها كله، وتعيش بسلامٍ في أحضانه، ولكن ليس هناك أيّ خبرٍ عن الماء.
فهل أنّها كانت غافلةً عن شكر النعمة، ليقذفها الموج من البحرِ إلى الساحل؟
وأخذت الشمس تلسعها، وأخذ البحر يمزّقها لفراق الماء.
وامتدّ لسانها، إلى شفتها من شدة العطش، وارتمت على التراب وخطر الماء في ذهنها.
وحين سمعت من بعيد أصوات البحر وهديره، ارتمت تتلوى على التراب وتقول:
الآن قد عرفتُ ما هي تلك الكيمياء، وذلك الإِكسير السحريّ، الذي لا أمل لي في الحياة بدونه؛ ولكن- للأسف- إنّني في هذا اليوم فحسب، قد أدركت قيمة الماء وأهميّته، حيث تقصر عن الوصولِ إليه).


فهذه السمكة، كانت تعيش في أحضان الماء، العمرَ كُلّه، ويحيطها الماء من كل جانب، فالشيء الذي لا تدركه ولا تعرفه، ولا تراه، هو الماء؛ ولكنها في اللحظة التي تخرج من الماء، وترى ما هو ضد الماء، وهو الأرض، حينئذٍ تشعر بوجود الماء وأهميّته لها.
إذن فالغيب، إنّما كان غيباً بالنسبة لنا، لقصور قُدراتنا الحسّية، والإدراكيّة، لا وجودِ حائلٍ وستارٍ، بين هذه القدرات وبين الغيب؛ وقد كُتِبَتْ بحوثٌ ودراساتٌ عديدةٌ حولَ حدود الإِدراكات ومداها، في العصرِ الحديث؛ وأهمها ما كتبه عَمَانوئيل كانت في كتابية، (نقد العقل النظري)، و(نقد العقل العملي).
ولكن الفلاسفة الإِسلاميّين قد بحثوا هذا الموضوع بصورةٍ أكمل، ولهذا الحديث موضعٌ آخر، ويضيق المجال لو تعرّضنا له هنا.
والمولوي قبل قرون قد تعرّض لهذه الفكرة، فكرة قصور الحس البشرّيّ ومحدوديّته، وضرب لذلك مثلاً: الفيلُ في هذه الأبيات الرائعة:
(جاء الهنود بفيلٍ لعرضه على الناس، وأودعوه غرفةً مظلمةً.
وتهافت الناس لرؤيته في ذلك الظلام.

وعندما لم تمكن رؤيته بالعين، كانت الوسيلة الوحيدة لمعرفته في تلك الظلمة القاتمة في اللمس باليد.
فذلك الذي وقعت يده على خرطومه قال: إنّه كالميزاب.
وذلك الذي وصلت يده لأُذنه قال: إنّه يشبه المروحة اليدوية.
وذلك الذي لمس قدمه، قال: إنّه يشبه الأُسطوانة.
وذلك الذي وقعت يده على ظهره قال: بأنّه كالسرير.
فكُلُّ مَنْ وقعت يده على جزء، كانت يتصوره بما يتلائم وذلك الجزء.
ولكن إذا جعلت في كفّ كُلّ واحدٍ منهم شمعة، لزال هذا الإِختلاف في أقوالهم).
وهذه الأبيات وغيرها، دراسة حول حدود الحواسّ وفاعليتها، فإنّ الحاسة اللامسة أكثر محدوديةً من الباصرة، فالباصرة تتمكن أنْ ترى وتُدرِك الحجم الكبير كالفيل، بجميع أعضائه وأجزائه، وبصورةِ موجودٍ واحدٍ يشتمل على ثلاثة أبعاد؛ إذن ، فنسبة اللامسة للباصرة، هي نسبة الحاسة المحدودة للحاسّة اللامحدودة (وبالطبع اللامحدود النسبي)؛ وهذا بنفسه يأتي في نسبة الحواسّ جميعها للقوة العاقلة.

عالم الغيب

ويبرز هذا السؤال: كيف يكتشف العقل عالم الغيب، وكيف يتعرّف عليه، ومن أيّ طريق يصل إليه؟ فما هي الآثار والدَّلالات الموجودة في العالم والتي تقود العقل وتوجّهه للعالم الآخر؟
وهذه المسأَلةُ خارجةٌ عن حدودِ بحثنا، وتشير إليها إجمالاً: قد أثبت العلم والفلسفة، أنّ الأصل في الأشياء المادية كلها هو: (الحركة)؛ ولكن الفلسفة تتوصّل لهذه الحقيقة عن طريق، غير الطريق الذي يسلكه العلم.

فالفلسفة ترى بأنّ الأشياء كلها متغيّرة في ذاتها، وجوهرها، فالعالم كله قافلة تسير وتتحرّك دائماً، ولكنّها ليست قافلةً تنتقل من مكانٍ لآخر؛ بل، إنّها تنتقل من وجودٍ لوجودٍ آخر، وحركتها هذه مستمرّة ومتّصلة.
وقد أثبتَ صدرُ المتألّهين الشيرازي، بِأَدِلّةٍ وبراهينَ قويّة، بأنّ جواهر العالم بدورها، في تغيير مستمرّ، وحركة دائبةٍ؛ فنفس الفكرة التي اعتبرها أرسطو ابن سينا مستحيلة، وقد اعتبرها الشيرازي ممكنة؛ بل، واقعة وضروريّة ولازمة.
فإنه يرى: بأنّ العالم في حدوثٍ وفناءٍ مستمرّين، حدوثٍ دائمٍ مستمرّ.

ووفق هذه النظرة، يتّضح وبصورةٍ كبيرةٍ، بأنّ العالم غير قائم بذاته، وغير معتمد على نفسه فحسب؛ بل، هو قائم بالغير، ويعتمد في وجوده أبداً على غيره، دون أنْ تكون له الإِستقلالية في ذلك.
فإنّه بناءاً على النظرية الجوهرية هذه، لم يخرج العالم في لحظةٍ واحدةٍ. من ظلمة العدمِ إلى نور الوجود، وتكون العلّة قد أوجدته فحسب؛ كلا، بل إنّ العالمَ في حدوث مستمرّ متواصل. ويخرج من العدم بصورةٍ تدريجيّةٍ ودائمة، ولا تهدأ هذه الحركة المستمرّة أبداً، وهناك يد تعمل ذلك في هذا العالم وبصورةٍ مستمرةٍ ودائمة.
(إنّ حركتنا في كُلّ لحظةٍ هي بنفسها: (أشهد): إنّها شهادةٌ على ذي الجلال السرمديّ.
إنّ دوران الرّحى: هو (أشهد) على وجود ساقية الماء.
يا خفيّ الذات محسوس العطا     أنت كالماء ونحن كالرحى (هذا البيت باللغة العربية من الشاعر نفسه)

أنت كالروح ونحن كاليد والقدم، إنّ امتداد اليد وانقباضها منبعثٌ من الروح.
أنت كالعقل ونحن كاللسان وهذا الكلام الذي يتدفّق من اللسان، هو في الحقيقة نابعٌ من العقل.
أنت كالسرور والفرح، ونحن البشاشة والضحكة، فإنّ هذه البشاشة وليدة ذلك السرور.
أنت الربيع، ونحن كالحديقة الخضراء الغنّاء، فهو خفي، والظاهر عطاؤه وفيضه.
يا مَن هو خارج عن وهمي، وعن كُلّ قيلٍ وقال: أُفّ لي ولتشبيهي، وتمثيلي).
إنّ هذا العالم في: وجود ونظامه، وحياته ونشاطه وفعّاليته، كلها مستمدّة من ذلك العالم الآخر.
إنّ هذا العالَم كالزّبد، وذلك العالَم كالبحر.
(إنّ حركة الزّبد ليلاً ونهاراً سببها البحر.
ونحن كالسفن التي تتلاعب بها الأمواج،وتصطدم احداها بالأُخرى، وعيوننا مغلقة عمياء، ولكنها تبصر في الماء.

أنت يا من رقدتَ في سفينة بدنك، قد أبصرتَ الماء، ولكن أنظر للماء الذي في الماء.
 إن للماء ماء يدفعه، وللروح روحاً تطلبها.
إن العشق بحر، والسماء عبرُه زبدٌ، كزليخا التي وقعت في هوى يوسف.
اعلم أنّ الحركات نابعة من موج العشق، إذا لم يكن للعشق وجود لصمتت ولعاشَ العالم كله في سُبات.
متى أصبح الجماد يذوب ويتفانى في النبات؟ متى أصبحت الناميات تضحّي بنفسها من أجل الروح؟
متى كانت الروح تضحّي بنفسها من أجل تلك النفخة؟ التي من نسميها أصبحتْ مريم حاملاً؟
كُلُّ شيء اتّخذ موضعاً، يرقد فيه كالثلج بسبُاتٍ وصمتٍ؛ فأيّ شيء أصبح كالجراد يطير ويدور باحثاً هنا وهناك؟
إنّ كُلّ ذرّة من عُشّاق ذلك الجمال، تكبر وتنمو للأعلى كالغرس).

الإِمداد الغيبيّ

كما أنّ الأشياء في أصل وجودها مفتقرة إلى المدد من الغيب؛ أي: أنّ لكل شيء في الطبيعة، مدد غيبي.
وكذلك الأمر في حياة البشر، فهناك مجموعة من الإمدادات الغيبيّة الخاصة، فماذا يعني ذلك؟ وهل الإِمدادات الغيبيّة نوعان، عامّة وخاصّة؟
أجل، هي كذلك، وقبل التعرّف على هذين النوعين، يلزم علينا التعرّف على بعض المصطلحات القرآنية.
لقد وصف القرآن الكريم الله تعالى بصفتين {الرحمن، الرحيم} والبسملة التي هي آية قرآنية تشمل على كلا الإِصطلاحين، وهاتان اللفظتان مشتقّتان من الرحمة: والفرق بينهما:
إنّ الرحمة الرحانية: عامة شاملة لكُلّ الموجودات؛ فأنّ وجود كلِّ شيء، هو بنفسه رحمة بالنسبة لذلك الموجود؛ وكذلك الوسائل التي خلقت من أجل المحافظة على بقاء وجوده، واستمراريّة حياته، هي رحمة أيضاً.
وأمّا الرحمة الرحيميّة: فهي عبارة عن الألطاف الخاصة، التي يستحقّها المكلّف لِحُسنِ أداء وظيفته، فهي لطفُ خاصٌ، ووفق قوانين خاصة معيّنة، قانوناً عاماً للطبيعة.

وقد بُعث الأنبياء من أجل دفع البشر للإِيمان، بمثل هذه الإِمدادات الغيبيّة الخاصة، فلو توافر فينا مثلُ هذا الإِيمان، استحققنا بعض الألطاف من الله، وأمكنا لنا أنْ نطلبها من الله تعالى.
وعلى أيّ حالِ، فإنّ البشر في حياته الخاصة، تشمله أحياناً الألطاف، والتوفيقات الخاصّة، سواء في حياته الفردية أو الإجتماعية التي تعينه، وتنتشله من السقوط والدّمار؛ والقرآن الكريم يقول بخصوص النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى}(الضحى/6/7 /8).
ونحن نردِّد في الفرائض الخمسة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين}(الفاتحة/5) ،وهو نوع من طلب المدد من الغيب.

أنواع الإِمدادات الغيبيّة

إنّ المدد الغيبي، تارة يظهر، بصورة توفير الشروط والظروف لتحقق النجاح والتوفيق، وأُخرى بصورة إلهاماتٍ وتوجيهات؛ ولكن، يجب أن نعلم بأنّ هذه الألطاف الغيبية لا تتحقق عبثاً ومجانيّـاً، فليس الأمر كما يتخيّله البعضْ، بأنْ يعتكف في بيته دون أن يعملَ شيئاً ثم ينتظر اليد الغيبية لتستجيب لمطالبه.

كلا، فإنّ مثل هذا التوقّع مخالف لنواميس الوجود والخليقة، وهناك آيتان في القرآن الكريم؛ تشير إحداهما: إلى النوع الأوّل من الإِمدادات الغيبيّة، وهو توفير شروط الموفقيّة والنجاح؛ والثانية: تشير إلى النوع الثاني، وهي الإِلهامات والألطاف، والتوجيهات، والإِرشادات المعنوية.
وسوف نتعرّف على الشروط التي يذكرها القرآن الكريم للمدد الغيبي، وأنه لا يفاض عبثاً ومجّاناً.
الآية الأولى حول النوع الأول: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}(محمد/7)، إذَنْ فمعونة الله، وهي المدد الغيبي، مشروطة بنصرة الله السابقة على مدِدِ الله، أو للمقارنة له؛ أي: بالخدمة والعمل والجهاد في طريق الخير؛ وأنْ يكون كُلُّ ذلك في سبيل الله؛ أيْ لله وفي الله؛ وكما أنّ العمل والمجاهدة شرط، فكذلك الإِخلاص وحسنُ النية.

الآية الثانية حول النوع الثاني: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(العنكبوت/69)؛ وهذه الآية كالسابقة، وقد اشترطت العمل، وبذل الجهودِ، وكذلك إشترطت النية، وأنْ يكون ذلك في سبيل الله، فاشترطت القوة البدنية، والقوة الروحية المعنوية؛ وفي ظلّ هذه الشروط سوف تتحقق الهداية والنور القلبي للإِنسان.
والإِمام علي (عليه السّلام) في فقرةٍ رائعةٍ، يتعرض للأرضيّة التي يهبط فيها نصرُ الله، والشروط التي يُفاض في ظِلِّها المدد الغيبي. وهذه الفقرة مذكورة في نهج البلاغة.
(ولقد كُنّا مع رسولِ الله نقتل آباءنا وأبناءنا وأخواننا وأعمامنا، ما يزيدنا ذلك إلاّ إيماناً وتسليماً ومضيّاً على الغمّ، وصبراً على مضض الألم، وجِدّاً في جهاد العدو. ولقد كان الرجل منا والآخر من عدونا يتصاولان تصاولَ الفحلين. يتخالسان أنفسهما أيّهما يسقي صاحبه كأس المنون. فمَرَةً لنا من عدونا. ومرّة لعدونا منا، فلما رأى الله صدقنا أَنَزَل لعدوِّنا الكبت وأَنزل علينا النصر؛ ولعمري لو كُنّا نأتي ما أتيتم ما قام للدين عمود، ولا أخضر للإِيمان عود).

والقرآن الكريم يقول حول أصحاب الكهف: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا}(الكهف/13/14).
فَلأَنّ هؤلاء قد آمنوا بالله، وثاروا بوجه التقاليد الجاهلية، وخرافات قومهم، ونصروا دين الله تعالى؛ لذلك، أفاض الله عليهم ألطافه الخاصّة، فأعطاهم قوّة في العقيدة وصلابة في القلب.
فالمدد الغيبي هنا، كان بصورة الهداية، وتقوية الإِرادة؛ وكلاهما مشروط بأمرين: أحدهما العمل والثورة، والثاني: أن يكون ذلك لله وفي الله.
فإذا اقترنت حياة الإِنسان بالرغبة في الحقيقة، والبحث الدائب عن الحقّ، والإخلاص، والعمل النافع؛ فسوف تشمله الحقيقة بعنايتها. وسوف تمتدّ يد الغيب له من طرق مختلفة، ربما تكون مجهولة له.

وهذه الحالة كما أنّها من الأُمور الاعتقادية، ومن آثار الإِيمان بتعاليم الأنبياء وكذلك هي بنفسها، حقيقة تجريبية، إنّها تجربة شخصيّة فردية، يلزم على كُلِّ فرد أنْ يُمارس مثل هذه الأعمال الموصلة لهذا الفيض الإِلهي، في حياته، ليرى لطف الله وعنايته، ومدده؛ وأيّ لذة تفوق لذة المشاهدة لآثار لطفِه تعالى.
وليس في هذا السبيل مشقة كبيرة، فإنّ المراحل الإبتدائية له، يسيرة وخفيفة، فإنّ الإِنسان يتمكن أنْ يرى آثار لطف الله ولو بصورة ضئيلة، في أداء بعض الأعمال الصالحة، كخدمة الناس، وإعانة الضعفاء وبالخصوص الإِحسان للوالدين، وغيرها؛ ولكن، بشرط الاخلاص وحسن النية؛ إنّني قد جرّبت، لك بنفسي، فرأيتُ لطف الله في ظلِّ هذه الشروط.
الفرق بين الفكر المادي والإِلهي

لا فرق- في نظر المادي- بين طريق الحق وغيره، ولا توجد حسابات خاصة، وأُسس معينة، لِكُلِّ ما يحفل به العالم من  عدل وظلم، وحسن وقبح، وعلى ضوء النظام الكُليّ الحمليّ للعالم.
إذْ، ليس للعالم عين ولا أُذُن ولا عقل ولا إدراك، حتى يتعرّف على مثل هذه الأُمور وحتى يتعاون مع أُولئك الذِين يسعون من أجل الحقّ والعدالة والأخلاق، والقيم الإِنسانية، والإخلاص، والأعمال الخيرية، بينما لا يتعاون مع أُلئك الذين لا يسعون في هذا السبيل.

وأمّا الإِلهي، فهو يرى فرقاً وتفاوتاً بين هذه الأمور والحالات، في حسابات النظام الكلي للعالم، فيعترف بوجود الحقّ والحقيقة، ويحاول بكُلّ ما يملك من قوةٍ. الدّفاع عن رجالِ الحق وحمايتهم.
وقد ذكرتُ في كتابي (الإنسان والقدر) في موضوع: تأثير العوامل المعنوية في المصير.
(يرى المادي: بأنّ العوامل المؤثّرة بالأجل والسلامة والسعادة، منحصرة بالعوامل المادية؛ فالعوامل المادية، هي التي تقرّب الأجل أو تؤخّره، وهي التي تمنح السلامة للبدن، أو تسلبها منه، أو تحافظ على السعادة أو تقضي عليها.
وأمّا الإِلهي: فإنّه يرى بأنّ العالم يمتلك الشعور والحياة، وأنّ لأفعالِ‎‎ البشر ردود فعل، ويعتقد بوجود التفاوت بين القبح والحسن في حسابات العالم، وأنّ لإِعمال الخير والشرّ ردود فعل تُواجه الإِنسان في حياته).
وقلنا في هذا الكتاب أيضاً: (يرى المادي: بأنّ ليس للسُّنن التشريعية-وهي المقرّرات التي يلزم على الإنسان العمل بها- أيّ حسابٍ على ضوء السنن التكوينية، وليس هناك أيّ تأثير للعالم في مسيرة الإنسان في الحياة؛ فالحق والباطل، والصحيح والخطأ، والعدل والظلم لا تفاوت فيما بينهما، بنظر العالم، وموقف العالم ومعاملته مع العاملين بهذه الأمور المختلفة، معاملة واحدة.

وأمّا الإِلهي فأنّه يعتقد: بأنّ معاملة العالم ليست واحدة، فهي بجانب أنصار الحق والعدالة، والرّسالات الحقة المقدّسة.
إن المادي مهما كان مؤمناُ بمدئه وأهدافه، ومهما كانت رسالته مقدّسة شاملة، بعيدة عن المنفعة الشخصية وحبّ النفس، ومهما بذل من الجهود والتضحيات، في سبيل الأهداف التي يسعى لتحقيقها؛ فإنه بالتالي سيعتقد بأنّ النتيجة التي سيتوصّل إليها، تكون بحجم الجهود التي بذلها في سبيلها.
وأمّا المسلم والمؤمن، فإنّه يعتقد بأنّ العالم قد خُلق بصورةٍ، أنْ لو ضُحِّي في طريق الحق، فإنّ العالِم سوف يهبُّ للدفاع عنه وحمايته، وإنّ حجم القوة الكامنة في الكون، التي تهبّ للدفاع عنه أضعاف القوة، التي يبذلها في طريق أهدافه المقدّسة بكثير، فإنّ المدرسة المادية ترى بأنّ ثقة أنصار الحقّ والعدالة بالوصول لإِهدافهم نتيجة نشاطاتهم وجهودهم، بمقدار الثقة لدى أنصار الظلم والباطل، في الوصول لأهدافهم الجهنميّة نتيجة فعّالياتهم، فإنّهم يعتقدون بعدم الفرق بين هاتين الفئتين في حسابات العالم، ولكن المدرسة الإِلهية، ترى وجود فرق كبير، وتفاوتٍ شاسع بينهما).

الإِلهام والإِشراق

من أنواع الإِمدادات الغيبيّة، تلك الإِلهامات والإِشراقات، التي تُشرق فجأةً في أذهان بعض المفكرين.
فإنّ العلم والمعرفة، عادةً ما يصل إليها الإِنسان من خلال طريقين:
أحدهما: التجربة والمشاهدة العينية.
والثاني: القياس والاستدلال، فالإِنسان يتعرَّف على أسرار الطبيعة وحقائقها من خلال المشاهدة العينيّة، أو أنّه يستنتج الحقائق والنتائج بيقوة القياس والإِستدلال، ومثل هذه التوفيقات نتيجة حتمية للمقدّسات التي طواها الإِنسان.
ولكن النظر الفلسفي العميق  يُلاحظ تَوافر الإِلهامات، حتى في تلك الطرق والوسائل المتعارفة للمعرفة، وهذه المسألة خارجة عن بحثنا؛ يقول السبزاوي:
والملهِمُ المبدِع العليمُ        حيٌّ قديمٌ مَنّه عميم

ولكن، هل أنّ معلومات البشر خلال تاريخه الطويل، لم تنبثق وتكتسب إلاّ من خلال هذين الطريقين، أم هناك طريق آخر للعلم؟
ويعتقد الكثير من المفكّرين، بوجود طريق ثالث، فإنّ الكشوفات والمخترعات كانت تبرق فجأةً وتُشرق في أذهان العلماء ثم تغيب وتختفي.
ويعتقد ابن سينا بأنّ هذه القوة الملهمة، الموجودة في الكثير من الأفراد، ولكن بِنِسبٍ مختلفة، وقد فُسّر بها الآية الشريفة { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ}(النور/35).
ويدّعي الغزالي في كتابه (المنقذ من الظلال): بأنّ الكثير من المعلومات البشرية، المتعلّقة بالحاجات الحياتية، قد انكشفت في بدايتها للإِنسان، بوسيلة الإِلهام.
ويقول الغزالي حول الوحي والنبوّة: إنّ الشاك فيهما، إمّا أن يكون شاكّاً بالإِمكان، أو بالوقوع، أو أنّه يشك في فردٍ بالخصوص، إنّه قد التقى به الوحي أم لا؟
ثم يقول: إنّ أفضل دليلٍ على إمكان ذلك هو وقوعه، فإنّ الكثير من المعارف البشرية في مجال الأدوية والعلاجات، والنجوم التي لا يمكن أنْ نتصوّر بأنهم قد تعرّفوا عليها بواسطة التجربة، قد اهتدى إليها البشر، من طريق الإِلهام واللطف الإِلهي.
ونصير الدين الطوسي أيضاً، يتبنى هذا الرأي؛ عندما يبحث حول الوحي والنبوّة، فيعتقد بأنّ الكثير من الصناعات قد توصّل إليها البشر بواسطة الإِلهام.
 
والمولوي أيضاً في بعض أشعاره يُشير إلى هذه الفكرة:
(إن علم النجوم والطب من وحي الأنبياء، ولولا الوحي لكان طريق الحسّ والعقل مسدود اً، لا هدف له.
يقيناً، إنّ جميع الحرف مستمدّة من الوحي، ولكنّ العقل عمل في تكثيرها وتطويرها).
قد يدّعي البعض، بأنَّ هذا الرأي، قد مضى وقته، وأصبح مهجوراً، وليس له أتباع وأنصار في عصرنا الحديث، فلا يقول أحدٌ بأنّ الإِلهام منبع لبعض المعارف، فالعالم اليوم يعتقد بأنّ المنبع الوحيد للمعرفة، هو الحواس الظاهرية، فحسب؛ فلا يؤمن إلا بالمشاهدة العينية، وتكرار المشاهدة والتجربة، ولا يعتقد بغير الوسيلة للمعرفة.
ولكن، ليس الأمر كذلك، فهناك الكثير من المفكِّرين في العصر الحديث، يؤمنون بما ذكرناه، وإنّ لكثير من الآراء والفرضيّات وليدة الإِلهام؛ والكسيس كارل، أحد أنصار هذه الفكرة، (الإِشراق والإِلهام) يقول في كتابه (الإِنسان ذلك المجهول):
(لابُدّ أن نجزم بأنّ الاكتشافات العلمية، ليست حصيلة الفكر البشري فحسب؛ فإنّ النوابغ بالإضافة إلى امتلاكهم لقدرة المطالعة الواعية، وإدراك المسائل والتحقيق فيها؛ فإنهم يمتلكون قوةً أُخرى، هي قوة الإشراق والتصور الخلاّق؛ فإنهم تعرّفوا بواسطة الإشراق، على الكثير من الأشياء التي كانت غامضة خفية على الآخرين، واطّلعوا على العلاقات بين الأشياء، التي لا علاقة فيما بينها ظاهراً، وعلى الكثير من الكنوز المخبوءة المجهولة، وبدون تحليلٍ واستدلال).
ويقول أيضاً: (يُمكن تقسيم العلماء إلى قسمين: المنطقيين والإِشراقيين، والتطوّر العلمي مدين لهاتين الفئتين من العلماء، فالعلوم الرياضية التي تعتمد في أساسها تماماً على المنطق. كان للإِشراق نصيب فيها أيضاً، والإِشراق عامل عامل مهمّ لمعرفة القضايا في الحياة العاديّة أيضاً، كما هو الأمر في المسائل العلميّة؛ ولكن ربّما يعسر تمييزه عن الوهم، ولا يمتلك كل أحد القدرة على التمييز، إلا الرجال العظام، وأصحاب القلوب الطاهرة النقيّة؛ وهذه الموهبة مدهشة حقاً، فكيف يُدرك الإنسان الحقائق بدون دليل).
ويذكر الكسيس كارل مجموعة من العلماء الرياضيّين، يدعي بأنّهم من فئة المنطقيين، وقد توصلوا إلى آرائهم وثقافتهم الرياضية، عن طريق الدراسة والبحث والاستنتاج المنطقي، ثم يذكر مجموعة أُخرى من الرياضيّين، ويدعي بأنهم من فئة الإِشراقيين المُلهمين.
وهناك غير الكسيس كارل من العلماء، قد اعترف بهذه الحقيقة أيضاً؛ فإن أحد الرياضيّين الفرنسيّين، وأسمه (جاك هادامارا)، له مقالة بعنوان: (تأثير الشعور الباطن في البحوث العلمية)؛ يقول فيها:
(حين نتأمّل في الكشوفات والإِختراعات، فلا يمكن لنا أن نهمل تأثير الإِدراكات الباطنية المفاجئة، فإنّ كل عالم محقّق، قد أحسّ بهذه الحقيقة؛ وهي أنّ الحياة، والمسائل العلمية، مؤلّفه من مجموعة من الفعاليات والنشاطات، التي كان للشعور والإِرادة دخل في بعضها، والبعض الآخر منها ناشئ من بعض الإِلهامات الباطنية).
ولا أذكر الآن في أيّ كتاب قرأت: بأن انشتاين يعترف بذلك أيضاً، وأن الفرضيّات الكبيرة وليدة نوع من الإِلهام والإِشراق.
ويتّضح من كل ما تقدم: بأنّ بعض الأفراد قد توفرت لهم في حياتهم بعض الأنواع من الإِمدادات الغيبيّة، وهذا المدد إمّا أنْ يتحقّق في قوة القلب والإِرادة، أو توفير الإلأسباب المادية للعمل، أو إفاضة الهداية والبصيرة، أو إلهام الأفكار العلمية الكبيرة وغيرها.
إذن، فالإِنسان لا يترك لوحده دائماً، فهناك يد غيبية، تطلّ عليه أحياناً، ووفق شروطٍ خاصةٍ، لتنقذه من الضلال والعجز، واليأس، والضعف والضياع.
الإِمدادات الغيبيّة الإجتماعية
كان حديثنا حول توفّر المدد الغيبي، بالنسبة للفرد الواحد، ولكن، هل يتمّ ذلك للبشر جميهم، فتتدخّل اليد الغيبية أحياناً لتنقذهم، وتأخذ بأيديهم إلى ساطئ النجاة؟
والملاحظ أنّ الأنبياء الكبار، أمثال إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد (صلّى الله عليه وسلّم) إنّما ظهروا في الظروف الصعبة، التي كانت البشريّة فيها بأشدّ الحاجة لوجودهم، فكانوا اليد الغيبية التي أنقذتهم، وكانوا كالمَطر الذي يهطل في الصحراء الضامئة العطشى؛ إنّهم مصداق الآية الشريفة: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}(القصص/5).
والإِمام علي (عليه السّلام) يحدّد المناخ والأرضيّة، التي بعث فيها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم)، (أرسله على حين فترةٍ من الرسل، وطول هجعة من الأمم، وانتفاض من المبرم، وانتشار من الأمور، وتلظٍ من الحروب، والدنيا كاسفة النور، ظاهرة الغرور، على حين اصفرارٍ من ورقها، وأياسٍ من ثمرها).
لقد ظهر الأنبياء في فترة كانت فيها البشرية، أو محيطهم الإجتماعي على الأقلّ تعيش حالةً خطيرةٍ، وكانوا هم السبب في نجاة المجتمع وإصلاحه؛ والقرآن الكريم يخاطب المجتمع الذي بُعث فيه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}(آل عمران/103).
وهناك أمثال سائرة، يتداولها الناسَ؛ أمثال: عند انتهاء الشدة يكون الفرج، أو الفرج بعد الشدة؛ وهناك أمثال أيضاً في اللغة العربية بهذا المعنى؛ وهذه كلها تعبّر عن التجارب البشرية في هذا المجال، وإنّ حركة العالم ومسيرته، ليست كما يتخيّلها المادي، حركة عبثيّة وعشوائية.

المهدوية في الإِسلام

إنّ مسألة المهدوية في الإِسلام، وبالخصوص عند الشيعة، لها فلسفة كبيرة: إنّ الإعتقاد بظهور المخلص والمصلح، ليس بمعنى ظهوره في منطقة جغرافية معيّنة، أو لإنقاذ المسلمين فحسب: إنّه يظهر لإِنقاذ البشرية عموماً في العالم كله، وتغيير الأوضاع الحياتية للبشر، بما فيه صلاحهم وسعادتهم.
 

ربما يتخيّل البعض، بأنّه في عصرنا عصر العلم، العصر الذي تعرّف فيه الإِنسان على أسرار الأرض وحقائقها، وسخّرها؛ والآن يرتقي إلى السماء ليتعرّف عليها ويسخّرها، فلا تحتاج البشرية حينئذٍ للمدد الغيبي؛ إذ أنّه يصبح بذلك أكثر تكاملاً واستقلالية، فلا يحتاج للمعونة الغيبية، أو أنّه أقلّ احتياجاً لذلك؛ فإنّ العقل والعلم بالتدريج، سوف يملآن الفراغ، ويستجيبان لمثل هذه الاحتياجات والرغبات.
وإنما الخطر يهدّد البشرية لو شاعت الجهالة، فإنّ البشر بأيديهم الجاهلة الغبيّة، سيوفرّون عوامل فنائهم ودمارهم، وسيفقدون التوازن والتعادل في حياتهم، ولكن بعد أنْ استضاء العالم بنور العلم، فلا يهدِّه أيُّ خطر.
ومما يؤسَف له، أنْ يخطر مثل هذا الوهم الباطل في أذهان البعض، فإنّ المفاسد والأخطار والمتاعب، التي ظهرت في عصر العلم، ليست أقلّ منها في العصور السابقة؛ بل، أنها أكثر وأشدّ.
إنّنا في وهم كبير، حين نتصوّر، بأنّ الباعث على انحرافات البشر دائماً هو الجهل؛ وعلماء التربية والأخلاق، في مختلف العصور، قد بحثوا هذه المسألة؛ وهل أن الباعث والمنشأ لانحرافات البشر، هو الجهل فحسب؛ فحينئذٍ يكفي التعلّم والتعليم، لمقاومة هذه الانحرافات والقضاء عليها؟ أم أنّ الأمر ليس كذلك؟ بل، أنّ الجهل أحد العوامل المؤديّة للإنحراف، فإنّ أكثر الإنحرافات ناشئة، من عدم التعادل في الغرائز والميول، نتيجة الإستسلام للشهوة والغضب، أو طلب الجاه واللذّة؛ وبالتالي، فإنّها ناشئة في واقعها من واقعها من عبادة النفس وعبادة المنفعة؟ ولا شكّ بأنّ النظرية الثانية هي الصحيحة.
ولندرُس، وضعية الغرائز البشرية في عصرنا الراهن، غرائز الشهوة والغضب، وحبّ الشهرة والمنصب واستغلال الإِنسان، واستثماره، وعبادة النفس والمنفعة والظلم والاضطهاد وغيرها؟ فهل هدأت هذه الرغبات والغرائز في ظلال العلم؟ لتحلّ محلّها روحُ العدالة، والتقوى، والعفاف، والصدق، وغيرها من القيم الرفيعة؟ أم أنّ الأمرَ على العكسِ تماماً؟
من الواضح: إنّ غرائز البشر أصبحت في عصرنا أكثر جنوناً من السابق؛ وأصبح العلم والفنّ آلات ووسائل بأيدي هذه الغرائز المدمّرة؛ وإنّ ملائكة العلم أصبحت خدماً لشيطان الشهوة، والعلماء وجنود العلم أصبحوا خدماً للسياسيّين، والباحثين عن المناصب، والذين يدعّون الربوبية في البشر.
أعتقد بأنّنا سوف لا نتردّد في القول: بأنّ التقدم العلمي، لم يكن له أيّ تأثير في غرائز البشر؛ بل، الأمر على العكس، لقد أصبح الإنسان أكثر غروراً، والغرائز الحيوانية أكثر اشتعالاً وضراوة؛ ومن هذه الناحية أصبح العلم الحديث أكثر عداوةً للإِنسان؛ أيْ: إنّ ذلك الشيء الذي هو أفضل صديق للإِنسان، أصبح من أشدّ أعدائه حقداً وعداوةً له؟ لماذا؟
إنّ علم الكهرباء، إنّما يكون مفيداً ومثمراً، فيما لو لواحظ في أيّ موضع يُستفاد منه، ولأيّ هدف؟ وكما يقول (سنائي): إنّ المصباح يمكن الاستفادة منه، لقراءة كتاب، ويمكن الاستفادة منه للسرقة في الليل المظلم.
إنّ الإِنسان إنّما يستخدم العلم من أجل تحقيق أهدافه الخاصة، ولكن ما هي أهداف البشر؟ لا يتمكن العلم من تغيير أهداف الإِنسان، أو تغيير قِيم الأشياء في نظره، أوْ أن يجعل من مقاييسه إنسانيّةٍ عامّةٍ؛ فإنّ ذلك مهمة الدين فحسب؟ إنها وظيفة القوة التي تمتلك السيطرة على الغرائز والميول الحيوانية، وإثارة الغرائز الإِنسانية السامية فيه.
إنّ العلم يتمكن أن يسيطر على كل شيء، إلاّ الإِنسان وغرائزه، وإنّما الإِنسان هو الذي يمتلك القدرة في السيطرة على العلم، وتوجيهه الوجهة التي يريدها، والدين وحده، يتمكن أنْ يُمسك زمام الإنسان، ويضعه تحت اختياره وإرادته، ويغيّر في أهدافه وطموحاته.
يقول ويل ديورانت في كتابه (لذّات الفلسفة) حول الإِنسان في عصر السرعة ( أنّنا أصبحنا أكثر قدرة من حيث التكتيك، ولكننا فقراء في الأهداف).

فلا فرق بين اللإِنسان المعاصر وغيره، في أنّ كلاً منهما أسيرٌ لغضبه وشهوته؛ ولم يتمكّن العلم من تحريره، وإطلاق سراحه من هوى النفس؛ لم يتمكن العلم أنْ يغيّر من طبيعة أكثر من "حجّاج" وأكثر من "جنكيز"، وأمثالهما من مجرمي التاريخ؛ بل أنهم اليوم بأنفسهم يحكمون العالم ويسيطرون عليه، بتلك الطبيعة المجرمة نفسها، متقنّعة بقناع الرياء والنفاق والإزدواجيّة؛ بل، إنّهم أصبحوا أكثر قدرة وخبرة في الإجرام بواسطة العلم، لقد تبدّل السيف، إلى صاروخ يحمل القنابل المدمّرة الجهنمية.


مستقبل العالم

 
بما أنّنا مسلمون، فإنّ الثقة والإطمئنان والتفاؤل بمستقبل البشرية تغمر قلوبنا، وأن كل ما يحدث في العالم، وإن بعثَ على الإِحساس بالخطر الهائل المخيف، وتوقّعه الخطر الذي يحمل الفناء والدمار للبشريّة، ويحوّل الكرة الأرضية إلى رماد، لتذهب أدراجَ الرياح جهود البشر كلها عبر آلاف السنين، لبناء الأرض وتعميرها.
ولكن، نحن المسلمين، رغم كل ذلك، نعتقد إعتقاد اً جازماً، أنه لابُدّ أنْ تدوم الحياة ويعيش الإنسان، بعدنا سنين متمادية، وربما ملايين السنين، ولا تفني بمثل هذه البساطة.
نعتقد، بكل ثقة واطمئنان، أنه سيولد بعدنا الكثير من المسلمين، يعيشون في هذه الحياة ويرحلون، فلا يخطر في أذهاننا هذا المصير الرهيب لعمر العالم، وهو انتهاء عمر الإِنسان وعمر الأرض.
 

إن تعاليم الأنبياء قد بعثت في نفوسنا الأمان والإِطمئنان؛ وفي الواقع إنّنا نؤمن في أعماق قلوبنا، بالإِمدادات الغيبية.
فإذا قيل لنا: إن هناك مذنّباً عظيماً، يسير بسرعة هائلـةٍ جنونيةٍ في الفضاء، وبعد ستة أشهر سيصل لمدار الأرض، ثم يصطدم بالأرض بقوة، ليحولها بلحظة واحدة إلى رماد، فإنّ ذلك لا يثير فينا الفزع والخوف، إنّ أعماقنا مليئة بالإِطمئنان والثقة، بأنّ حديقة البشرية الجديدة العهد بالتفتّح والإزدهار، لا تفنى بمثل هذه السهولة.
أجل.. كما أنّنا نؤمن بأنّ العالم لا يفنى بالمذنّب الطائر، أو بغيره من الحوادث الفضائية؛ كذلك نؤمن بأنّ العالم لا يفنى بيد البشر نفسه، بواسطة القوى المخرّبة التي صنعها الإنسان بنفسه، أجل إنّنا لا نصدق بذلك، بفضلِ الإِلهام المعنويّ، والمدد الغيبيّ، الذي اقتبسناه من تعاليم الأنبياء.
ولكن الآخرين هل يمتلكون مثل هذا الإيمان أم لا؟ هل تعرف نفوسهم هذه الثقة والإطمئنان والتفاؤل بمستقبل الإِنسان والأرض، والحياة والمدنية، والسعادة والعدالة والحريّة؟ كلا.
وبين الفينة والأخرى، نقرأ في الصحف، أو نستمع في أحاديث الزعماء؛ وقادة السياسة العالمية وخطبهم: للآراء المفزِعة حول المستقبل المخيف، الذي ينتظر البشرية.
فإذا لم نمتلك في أعماقنا ذلك الاعتقاد، الذي يبعثه الدين فينا، وفقدنا الإيمان بالمدد الغيبي، وأعتمدت أحكامنا على العوامل، والعلل الظاهرية فحسب؛ فلا بُدّ أنْ نعتقد بأنّ هؤلاء المتشائمين على حق في نظراتهم حول المستقبل البشري؟
لماذا لا نكون متشائمين؟ إن العالم الذي يتوقف مصيره، على زر يضغطه إنسان، وبعد ذلك تعمل الآلات المخرّبة عملها المخيف، التي لا يعلم مداها إلا الله؛ العالم الذي يقف على فُوَّهة بركان، وعلى ركامٍ هائل من البارود، وشرارة واحدة، تكفي لأنْ يشبَّ الحريق في العالم كله، فأين موضه التفاؤل بالمستقبل، ولماذا لا نكون متشائمين؟
يقول (رسل) في كتابه (الطموحات الجديدة):
(إنّ العصر الحديث، الذي تواءمت فيه الحيرة والذهول والقلق، مع الضعف والعجز؛ وقد شملت هذه الحالة التعيسة الجميع؛ فنرى بأنّنا نسير إلى حربٍ لا يرغب فيها أيُّ واحدٍ مِنّا، حرب يعلم جميعنا، بأنّها سوف تقذف بالقسم الأعظم من البشر إلى العدم والفناء؛ ونحن كالأرنب المذعور الذي يقف مصعوقاً أمام الحية، ننظر بفزع إلى الخطر الهائل الزاحف إلينا، ولا ندري ماذا نعمل لنوقفه عندَ حدّه.
ونسمع باستمرار حكايات القنابل المدمِّرة، الذرّية، والهيدروجينية، والمُدن التي سُوِّيت مع التراب بفعل هذه القنابل، ونسمع بخيول الجيش الروسي، ونتناقل فيما بيننا، أحاديث المجاعات، والجرائم الوحشية، لكن، رغم أنّ العقل يفرض علينا أن نرتجف من المستقبل المخيف، لأنّ جزءاً من وجودنا يلتذّ به، وبذلك يحدث جرح عميق في روحنا ويمزّقها إلى قسم سليم، وقسم غير سليم؛ ولكن، رغم ذلك، لا نتّخذ قراراً حاسماً للوقوف بوجهه).
ولكن هل يتمكن البشر أن يتخذ مثل هذا القرار الحاسم؟
ويقول رسل أيضاً: (إنّ تاريخ الإِنسان طويلٌ؛ ولكنه بالنسبة لعمر الأرض، قصيرٌ جدّاً؛ فإنّهم يعتقدون بأنَّ عمر الإِنسان، مليون سنة فحسب؛ ويعتقد الكثير ومنهم انشتاين، بأنّ الإنسان، قد طوى المراحل المقدّرة لحياته، ولا تمضي إلاّ سنوات قليلة، ليبيد نفسه، ويقضي عليها بقُدُراته العلمية نفسها).
إنّنا لو اعتمدنا على العوامل الظاهرية فحسب، للحكم ولتقييم الأشياء؛ فإنّ هذا التنبّؤ بدمار الأرض صحيح.
وإنّ الإِيمان المعنوي، الإِيمان بالإمدادات الغيبية،وإن للعالم رباً يحميه هو وحده الذي يحوّل هذا التشاؤم إلى التفاؤل، وهو الذي يخلق الإِطمئنان والإِيمان، بأن السعادة والتكامل، والحياة الإنسانية، والحياة الحرّة الكريمة، والأمن، هي التي تنتظر البشرية في المستقبل.
إنّنا إذا تقبلنا هذا التشاؤم، واعتقدنا بهذا المستقبل الرهيب، الذي يتنبّأ به هؤلاء فسوف يكتسب الوضع، هيئة مضحكة غريبة؛ فإن مثل البشر يكون كالطفل، الذي يأخذ بالنموّ، وحين يمتلك القدرة على إمساك السكين، يمسكها، ثم يطعن بها نفسه وينتحر، ولم ينتفع من وجوده أبداً.
فإنهم يقولون، بأنه قد مرّ على عمر الأرض (40000) مليون سنة، ومرّ على عمر الإِنسان ما يناهز المليون سنة؛ فإذا فرضنا أنّ عمر الأرض سنة واحدة، وقد مرّ عليها ثمانية أشهر، لم يوجد فيها أيّ كائن حي، وفي الشهر التاسع ظهر أوّل كائن حيّ بصورة بكتيريا، أو جرثومة صغيرة، ذات خلية واحدة؛ وفي الأسبوع الثاني، من الشهر الأخير من هذه السنة، ظهرت الحيوانات الثديّة، وفي الربع الأخير، من الساعة الأخيرة، من اليوم الأخير من تلك السنة ظهر الإِنسان؛ وبعد مروره بمراحل التوحش والغابية، يأخذ بالتطور والتكامل، ويصل إلى الدقيقة الأخيرة من تلك السنة.
في هذه الدقيقة الأخيرة، تتفتق مواهب الإنسان واستعداداته، ويعمل العقل البشري عمله المثمر، وينتج هذا التمدّن العظيم؛ في هذه الدقيقة الأخيرة، يتمكن الإنسان أنْ يُثبت بأنّه خليفة الله.
ولكن إذا قلنا: بأنّ الإنسان في هذه الدقيقة الأخيرة، التي يصل فيها إلى هذا التقدم العلمي الكبير، يقضي على نفسه.

إذا قلنا: بأنّ الإنسان سيحفر قبره، بيد قدراته العلمية نفسها، وليس هناك إلاّخطوات ويسقط في قبره؛ إذا كان هذا الانتحار الجماعي، هو المصير الذي ينتظر البشر فحينئذٍ لابُدَّ أن نقول بأنّ إيجاد مثل هذا الموجود وخلقه كان عبثاً وجِزافاً.
أجل.. إنّ الإِنسان المادي لا يفكر إلاّ بهذه الطريقة؛ وأما الإِنسان الذي نشأ وترعرع، في أحضان التعاليم الإِلهية، فإنّه لا يفكر بهذا الأسلوب؛ إنّه يؤمن بأنّ العالم لا يمكن أن يسقط، في أيدي حفنةٍ من المجانين، وهو يعتقد بأن العالم وإن وقف اليوم على حافة الخطر، لكن الله الذي أنقذ البشرية في العصور السابقة، بين فترةٍ وأخرى، وأرسل المصلح والمخلص من عالم الغيب، سيقوم بمثل هذا العمل في الظروف الصعبة التي تمرّ بها البشرية؛ بعذ ذلك، هو يؤمن بأنّ أعمال العالم لا تصدر عبثاً، هو يؤمن بأنّ المصير الرهيب، والنهاية المفزعة التي يتصورها المادي لو تحقَّقت، فإنها تتنافى وحكمة الله وعنايته.
إذ مقتضى الحكمة والعناية        إيصالُ كُلِ ممكنٍ لغاية
كلا، لم يصل عمر العالم لنهايته: فإنّنا لا زلنا في بداية الطريق، إنّ البشرية تنتظر الحكومة القائمة، على العقل والحكمة والخير والسعادة والأمن والرفاه والوحدة العالميّة الشاملة، الدولة التي يحكمها الصالحون، ويتحقق فيها انتخاب الأصلح بمفهومه الصحيح، إنه يوم السعادة والنور.
{وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا}؛ إنه اليوم الذي يقول حوله الحديث الشريف: (إذا قام القائم حكم بالعدل، ارتفع في أيّامه الجور، وأمنت به السبل، وأخرجت الأرض بركانها، ولا يجد الرجل منكم يومئذٍ موضعاً لصدقته ولا بره؛ وهو قوله تعالى:{وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}).
فبدلاً، من أنّ نجلس يائسين، ذاهلين، يمزّقنا القلق والتوتر؛ ونقول: بأنّه قد انتهى عمر البشر، ولم تبق إلاّ خطوات للقبر، الذي حفره الإنسان بيديه، وسوف تنقضي الأيام السعيدة.
بدلاً من ذلك كله، يجب أن نزرع التفاؤل في نفوسنا؛ فنقول: بأنّ هذا الظهور، كما في التجارب السابقة، التي مرّت عليها البشرية، لم يتحقّق إلاّ بعد الشدائد وإنّ الفرج يكون دائماً بعد الشدة، والبرق دائماً يبرق في الظلام.
يقول الإمام علي (عليه السّلام) حول ظهور المهدي الموعود:
 (حتى تقوم الحرب بكم على ساق، بادياً نواجذها، مملوئةً أخلاقها، حلواً رضاعها، علقماً عاقبتها؛ إلاَ وفي غد-وسيأتي غد بما لا تعرفون- يأخذ الوالي من غيرها عمالها، على مساوي أعمالها وتُخرج الأرض له أفلاذَ كبدها-وتلقي إليه سلماً مقاليدها، فيريكم كيف عدلُ السيرة ويحيي ميت الكتاب والسنة).
الإِمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) يتحدّث في هذه الخطبة، عن مستقبلٍ قاتمٍٍ رهيب، يتحدّث عن الحروب الوحشيّة؛ ولكنه، يبشّر بالفجر بعد هذا الليل المظلم؛ ويقول القرآن الكريم: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}(الأنبياء/105).
أجل، إنّ هذه هي فلسفة المهدوية، ففي الوقت الذي ستحدث فيه الهزات الشديدة، والمذابح والجرائم، والمآسي الدامية؛ ولكن، رغم ذلك سيظهر الفجر، وستصل البشرية إلى الغد الذي يفيض سعادة، حيث سينتصر فيه العقل على الجهل، والتوحيد على الشرك، والعدالة على الظلم والسعادة على الشقاء، وهذه هي البشارة.
(اللهم إنا نَرغب إليك في دولةٍ كريمةٍ تعزّ بها الإِسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وتُرزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة).


الديــن شمسٌ لن تغيـــــب - الشهيد مرتضى مطهري


هل للدين نهاية؟

إن عالممنا عالم التغير والتحول، فلا يبقى شيء ثابتاً: بل، أنّه سيتحول ويشيخ، وبعد ذلك يموت، وينطفئ، وينقضي عمره، فهل الدين كذلك؟
وهل للدين مرحلة زمنية معينة، إذا مرّت، وانقضت فسوف ينقضي عمر الدين أيضاً، أم ليس الأمركذلك؛ بل، هو دائم، باقٍ بين الناس، وإذا حدث، أنْ ظهرت حركة، معادية للدين، تحاربه، وتحاول القضاء عليه، فالدين رغم ذلك، لا يموت، ولا ينطفئ، بل، أنه سيبقى نابضاً، سيظهر، ويثبت وجوده، بأشكالٍ وصورٍ أُخرى بعد فترة وجيزة؟.
يقول ويل ديورانت-وهو لا يؤمن بأيّ دين، في كتابه (دروس التاريخ) في بحثه حول التاريخ والدين: (للدين مئة روح، كلُّ شيء إذا قضي عليه، في المرة الأولى، فإنّه سوف يموت وإلى الأبد، إلاّ الدين، فإنّه لو قضي عليه مئة مرة، فإنّه رغم ذلك، سيظهر، وتنبعث في الحياة بعد ذلك).
ستكون دراستنا في حدود القوانين والنواميس الطبيعية: ما هي الأشياء التي تبقى والأشياء تفنى وتموت؟ ولا يتعرّض حديثنا للأُمور الخارجة عن مدار الظواهر الإِجتماعية، بل سيتحدّد في هذا المجال.

مقياس الخلــــود

إنّ الظواهر الإِجتماعية التي تحتفظ بوجودها خلال عمرها. لابد أنّ تكون متلائمة مع الرغبات والحاجات البشرية. أي أنّها: إماّ أن تكون بنفسها حاجات بشرية، أوَ أَنّها وسائل لإشباع تلك الحاجات الإِنسانية؛ بمعنى: إنّ البشر في أعماق فطرتهم يبحثون عنها، ويرغبون فيها، أوَ أَنها ليست كذلك فلا يرغب بها الإنسان في عمق فطرته وغريزته، ولا تستهدفها الميول البشرية، ولكنها وسائل لإشباع حاجاته الفطريّة الأوليّة.
 
وحاجات البشر على قسمين: حاجات طبيعية؛ وحاجات غير طبيعية، أي (العادات).
أَمّا الحاجات الطبيعية: فإنها تعني تلك الأمور التي يحتاجها الإِنسان بما أنه إنسان، ولم يكتشف سرّها حتى الآن، كحب المعرفة، والإِستطلاع، وحبّ الشهرة والجمال، والرّغبة في الأُسرة والنسل، فرغم أنه سوف يصيبه التعب والكلل في سبيلها ولكن رغم ذلك يرغب فيها، ويسعى في إشباعها وإرضائها.
وأمّا لماذا يرغب في المعرفة والجمال، وما هو واقع هذه الرغبات، ولماذا يلتذّ بها؟ هذه أسئلة، تبحث عن الجواب، وسواء تمكّنا من الجواب عليها أم لا؛ فإنّ هذه الرغبات والحاجات موجودة فعلاً في الطبيعية الإِنسانية.
وأمّا الحاجات غير الطبيعية، أيّ العادات، التي يعتاد عليها أكثر الناس، ولكنّهم يتمكّنون من التخلص منها؛ أو استبدالها، كالإِدمان على شرب السجائر أو الشاي؛ أو الخمر، أو الهيروين، وغيرها؛ والتى تصبح حاجات يحتاج إليها الإِنسان، ويرغب فيها بشدّة كما يطالب بالحاجات الطبيعية، وتصبح بالتدريج طبيعة ثانوية له، ولكن رغم ذلك، فإنه يتمكن من هجرها والتخلّص منها أو تربية الجيل القادم، وتنشأته نشأةً لا يفكر معها بهذهى الأشياء أبداً.
وأمّا االرغبات والدوافع الفطرية الطبيعية، فليست كذلك، إذْ لا يتمكن الإِنسان من تركها، إذْ لا يتمكن الإِنسان من تركها، ولا نستطيع أن نربّي الجيل تربيةً يتناسى معها هذه الرغبات.

ومثاله الواضح، يظهر في تطبيقات الشيوعية، فالحكم الشيوعي؛ سعى لتحقيق فكرتين: إحداهما الإشتراكية، والثانية إبادة النظام العائلي الاختصاصي؛ ولكن باءت محاولاته بالفشل، فإنها لا تقبل التطبيق، إذ الدافع لتشكيل الأسرة دافع طبيعي فطري، فإنّ كُل فردٍ في أعماقه يميل للأُسرة، وإلى زوجةٍ تختصّ به، حتى يكون الولد المتولّد منهما؛ مختصّاً به، وإنما يحب ولده ذلك الحب الشديد لأن ولده امتداد لوجوده، وهذا الحب أمر فطري، وحين لا يكون له ولد، يشعر بأنّ وجوده سيزول، وينقطع بعد حياته.
 
وكذلك الإنسان فطرياً، يمتلك الرغبة في معرفة تاريخه وماضيه، ومن هو أبوه وأُمه، ولا يمكن أنْ يعيش الإنسانُ سعيداً، وسويّاً، وهو لا يعرف أباه أو أُمه، وكيف يمتدّ وجوده بعد حياته، وأي الأولاد ولده؟ ولذلك لم يستجب البشر لهذه الفكرة، فماتت، وقُذف بها في سلّة المهملات؛ وقد اقترح أفلاطون قبل (2600) عاماً، أمثال هذه الفكرة(ولكن في خصوص طبقة الحُكام والفلاسفة والفلاسفة الحكام، وقد اعتبرها الوسيلة الوحيدة للحدّ من تصرفاتهم الشخصية السيئة). ولكنه بنفسه قد ندم على ذلك، بعد أن لمس آثارها السيئة، وقد ظهرت الدعوة لإِلغاء النظام العائلي، في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين؛ ولكن رفضها البشر، لماذا؟ لأنّها خلاف الطبيعة البشرية.
وللحكماء قاعدة فلسفية وهي (أنّ القسر لا يدوم)؛ ويعني ذلك: أنّ التيار غير الطبيعي، فإنّه يدوم، وله الإِستعداد على البقاء والثبات، وأمّا غير الطبيعي، فلا يمتلك القابلية على البقاء.
 
وإذا أردنا أن نثبت بأنّ الدين يبقى ويدوم، فلا بد أن يكون أحد هذين الأمرين: إمّا أنّ يكون بنفسه حاجة طبيعية، أو يكون وسيلة لإشباع الحاجة الطبيعية، ولكن يشترط أن يكون هو الوسيلة الوحيدة لإشباع هذه الحاجة أو الحاجات الفطرية الطبيعية، ولا توجد وسيلة أٌخرى أفضل منها، فإنه لو وجدت وسيلة أٌخرى غير الدين، تشبع تلك الحاجة، بصورة أفضل، وأكثر فائدة وتأثيراً، فحينئذٍ سوف تزول الحاجة للدين، ويهجر ليتمسك بتلك الوسيلة الأخرى، وبالخصوص إذا كانت الوسيلة الأخرى أفضل من الدين.
 
ونلاحظ مثل هذه الظاهرة في العصر الحديث كثيراً؛ فإنّ السلع، تتغير بين يومٍ وآخر مثلاً، وتُهجر السلعة القديمة ليندفع الناس لشراء الجديدة، وإن كانت تُشبع نفس الحاجة التي تشبعها القديمة.

مثلاً احتياج الناس للبلس الجورب، ففي البداية كانوا يلبسون الجورب المحاك؛ ولكن، ظهر اليوم جورب آخر، يشبع هذه الرغبة، وربما كان أفضل وأجمل من السابق: لذلك، هُجِر النوع السابق واستُخدم الجديد.
وكذلك، حينما اختُرع الكهرباء، ترك الإنسانِ استعمال المصباح الزيتي؛ فإنّ استخدام المصباح، كان لأجل الاستفادة من ضيائه، وهذه الحاجة يشبعها الكهرباء بصورةٍ أفضل وأيسر.
 
والدين يمتلك كلتا الميزتين، فإنه بنفسه حاجة فطرية وشعورية للبشر، وكذلك هو الوسيلة الوحيدة لإشباع الحاجات الفطرية للبشر، بحيث لا يمكن لغيره أنْ يحلّ محلّه، وبعد الدراسة التالية، سيتّضح لنا، بأنّه يستحيل على أيّ شيء أنْ يقوم مقام الدين، في إرضاء هذه الرغبات الفطرية.
فطـــرية الديــن
القرآن الكريم يصرّح بأنّ الله قد أودع الدين في قرار الإنسان وأعماقه؛ كما قال في قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}(الروم/30).
 
وحين يتحدّث الإِمام علي (عليه السّلام) عن الأنبياء؛ يذكر، بأنهم قد بُعثوا، لأجل أن يذكُروا الناس بذلك العهد، الذي عقدته فطرتهم، لأجل مطالبتهم بالوفاء بذلك العهد، الذي لم يُكتب على ورقة- ولم ينطق به لسان، وإنّما كُتب على صفحة القلب وفي عمق الفطرة الإِنسانية، بقلم الخليقة- على صفحة الضمير، وفي أعماق الشعور الباطن.
ولم أذكر ذلك للإِستشهاد والاستدلال؛ بل استهدف من ذلك أن أُثبت أن الإسلام كان أوّل من اكتشف أنّ الدين حاجة فطرية، ولم يعرف البشر هذه الفكرة سابقاً، ولكن ظهر في العصر الحدِيث مَن يُنادي بها ويدعو إليها، وقد ظهرت الكثير من النظريات والآراء حول هذه الفكرة في القرن السابع عشر، والقرن الثامن العشر، والقرن التاسع عشر الميلادي؛ والقرآن الكريم يصرّح: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}.

كيف وجد الدين؟
 
هناك فرضيات كثيرة حول نشأة الدين، ونستعرض بعضه إجمالاً:

1-الدين وليد الخوف، خوف الإنسان من الطبيعة، ومن صوت الرعد الرهيب، وسعة البحر وهدير أمواجه المتلاطمة، وغيرها من مظاهرِ الطبيعة.
ونتيجة لهذا الخوف أنّ خطر الدين في أذهان البشر؛ والحكيم اليوناني (لوكريتوس) ذكر: بأنّ أول الآباء للآلهة هو إله الخوف، وفي عصرنا الحديث قد التزم بها البعض، وادعّى بأنّها نظرية جديدة. 

2-الدين وليد الجهل؛ فقد اعتقد البعض بأنّ العامل لوجود الدين، هو جهل البشر؛ فالإِنسان بطبعه، يميل إلى معرفة العلل والقوانين الحاكمة في الكون، وفي حوادثه، وربما أنّه لم يعرفها، نسبها لما وراء الطبيعة.

3-الرغبة في العدالة والنظام؛ ذهب البعضِ إلى أنّ الدافع على الدين وانتماء البشر إليه، هو الرغبة في العدالة والنظام، فحين لاحظ الظلم والاضطهاد، وعدم العدالة في المجتمع والطبيعة؛ لذلك، أوجد الدين وتشبّث به، لتسكين آلامه النفسية وتهدئتها.
وقد ذكر أصحاب هذه الفرضيات الثلاثة، بأنّه مع تقدم العلم وتطوره، فسوف يزول الدين لوحده ويحتل العلم موقع الدين؛ لذلك، دعوا إلى تطوير العلم وتنميته، لأنّه في رأيهم، أنّ العالم يعني غير المتدين.

4-الفرضية الماركسية: وتعتقد الماركسية، بأنّ الدين قد وجد، لأجل أن تحتفظ الطبقة المستثمرة، بامتيازاتها، ومكانتها، وسلطتها بين الشعوب؛ ففي مرحلة الشيوعية الأولى، لم يكن هناك وجود الدين، وقد وجدت- لبعض العوامل والملكية الخاصّة، والطبقية، ووجدت طبقة حاكمة، وطبقة محكومة، محرومة؛ وفي المرحلة الإِقطاعية والرأسمالية، أنشأت الطبقة الحاكمة فكرة الدين، حتى لا تثور الطبفقة المحرومة بوجهها، فالدين لجامٌ لجامها وغضبها، وأفيون لهذه الطبقات المحرومة، لتبقى سادرة في سُباتها وغيبوبتها.
والملاحظ أنّ سائر الفرضيات قد جعلت العلم يأخذ موقع الدين؛ أما هذه الفرضية فلم تلتزم بقيام العلم مقام الدين؛ فإنّ الماركسية رأتْ، بأنّ العلم تطور وتقدّم، ولكن الدين لا زال باقياً ولم يتعرّض للفناء؛ بل، لاحظوا، بأنّ كبار العلماء هم من العلماء هم الملتزمين بالدين، كباستور وغيره.

لذلك اعتمدت الماركسية على الطبقية، فأكّدت بأنه ما دام للطبقات وجود فالدّين لا يزول، بل سيظل محتفظاً بوجوده، لوجود هذه الطبقية في الشعوب، فإنّ الدين وليد الطبقية؛ فإذا ساد العالم المذهب الإِشتراكي، وزالت الطبقية فإنّ الدين سيزول لوحده.
إنّ الماركسيّين يعتقدون: بأنّ الدين شِراك تنصبه الطبقة الحاكمة، للطبقات الكادحة المحرومة، فلو تساوى الجميع، وزالتْ الطبقية فسيزول الدين بنفسه، لأنّه لا حاجة لهذا الشراك آنذاك.
وبإيجاز: فإنّهم دعوا إلى تحقيق المساواة التّامة، بين أفراد المجتمع، كشرطٍ ضروريّ للقضاء على الدين.
ولكن هذه الفرضيّة، كأخواتها، لم تثبتْ للنقد العلمي؛ إذ ثبت أنّ الدين أسبق وجوداً من الملكية، ففي مرحلة الشيوعيّة البدائية، وحين لم يكن للطبقات وجود، كان الدين موجوداً آنذاك؛ بالإِضافة إلى أنّ الواقع التاريخي، لا يتلاءم وهذه الفرضية.
إذْ أثبت التأريخ بأنّ الدين قد ولد ونشأ بين الطبقات المستضعفة والمحكومة وقادة الرسالات أمثال موسى وغيره، كانوا من الطبقة المحرومة والمستضعفة، حيث واجه هو وأصحابه المحرومون، الطبقة الحاكمة المتمثّلة بفرعون وأمثاله.

وحين بُعث نبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم)، أعلن ثورته على الطبقة الحاكمة، والـثّرية، والمرابين؛ وقد عبّر القرآن الكريم عنهم؛ {الملأ} أي الإشراف، أمثال: أبي سفيان، وأبي جهل والوليد بن المغيرة؛ فإنهم كانوا من زعماء مكة وأثريائها، ومن المخالفين له؛ وأمّا أتباع النبيّ (صلى الله عيه وآله وسلّم)، فكانوا من الطبقة المحكومة والمضطهدة؛ أمثال: عمار، وسلمان، وأبي ذرّ، وعبدالله بن مسعود، وأمثالهم.
وحين زار خروتشوف إبّان رئاسته، الجزائر؛ قال له ابن بلا- الذي كان رئيساً للجمهورية آنذاك-: بِأَنّ الإِسلام يمكن أَنْ يكون عاملاً محركاً في شمال أفريقيا، لمقاومة الإِستعمار، فصدّقه على ذلك.
إذن، فقد إعترف بالحقيقة، هؤلاء الذين كانوا يقولون، بأنّ الدين أفيون الشعوب؛ وأنّه قد اصطنعته الطبقة الحاكمة، لتخدير الفئات المحكومة والمضطهدة، حتى لا تطالب بحقوقها المشروعة، وتشعل الثورة ضد الحكام المستبدّين؛ ولكن، بعد أن اطلّع على الإسلام عن قرب اعترفَ بالحقيقة.

ويظهر مما سبق، أنّ المخالفين للدين أنفسهم، لم يتّفقوا على رأي واحد.

5-فرضيّة فرويد: وقد فسّر فرويد كل الظواهر الإِجتماعية وفق الغريزة الجنسية، ومن جملتها الدين، فإنّه حين تقف الظروف الإِجتماعية بوجه إطلاق العنان للغريزة الجنسية، تُصاب هذه الغريزة بالكبت والحرمان، ولكنها لا تزول؛ بل، أنها تستقر في اللاشعور، حيث تقف بوجهها القيود الإِجتماعية، ولكن هذا الكبت والحرمان يحقّق نفسه في الخارج، بصورةٍ أمراض عصبيّة ومظاهر مختلفة، ومنها الدين.
إذنْ، ففي رأيه أنّ الدافعِ إلى وجود الدين، هو الحرمان الجنسي؛ فهو يعتقد بأنّ الجذور الأولى لظهور الأخلاق والعلم ،وكل شيء، هي جذور جنسية؛ ويعتقد بأنّه حين ترتفع الحواجز والسدود، عن طريق الغريزة الجنسية، وتُمنح لها الحرية ولا تبقى مكبوتة، فسوف يزول الدين لوحده.
ولكن فرويد بنفسه قد ندم على رأيه هذا، بعد ذلك ولم يتقبل تلاميذه منه هذا الرأي، ومن هنا تتأكّد فطرية الدين.

الآراء حول فطرية الدين

وقد ظهرت دراسات عديدة لإِثبات فطرية الدين:

1-رأي يونج: ذكر (يونج) عالم النفس الشهير، وتلميذ فرويد، بأنّه وإنّ صحّ ما ذكره فرويد، بأنّ الدين من الصور التي تتدفّق من اللاشعور الإنساني؛ ولكن، القول بأنّ محتويات اللاشعور جميعها منحصرة بالميول الجنسية، التي هربت من شعور الإِنسان إلى لا شعوره، هذا القول غير صحيح؛ فالإنسان يمتلك  نفساً باطنةً، ووجوداً لا شعوريّـاً فطريّاً، طبيعيّاً، ولا تنحصر محتويات هذا الوجود بما يقدّم إليه من الشعور الظاهر، كما توهّم فرويد؛ ففي الواقع، قد نجح فرويد حين اكتشف اللاشعور، ولكنه فشل في اعتقاده بأنّ محتويات اللاشعور جميعها مؤلفة مِمّا يطرده الشعور، ويعتقد يونج بأنّ الدين من تلك الأمور المتواجدة في اللاشعور بصورةٍ فطريّةٍ وطبيعية.

2-(وليم جيمس):- وهو فيلسوف وعالم أمريكي كبير؛ يقول: بأنّه وإنْ صحّ القول بأنّ المنشأ الكبير من الرغبات الباطنية، هي الأمور الطبيعية المادية، ولكن المنشأ للكثير منها أيضاً، عالم آخر وراء هذا العالم المادي، والدليل على ذلك، عدم توافق الكثير من أعمال البشر، مع الحسابات الماديّة، فإنّنا، نلاحظ في كل حالة، وعمل ديني دائماً طابعاً من الوفاء والإِخلاص والوجد واللطف والمحبة، والإِيثار، فللحالات النفسيّة الدينية، بعض المشخّصات والخصائص التي لا تتلائم مع الحالات النفسية البشرية كلها؛ ويقول: بأنّ الغرائز المادية هي التي تربطنا بهذا العالم المادي، وكذلك الغرائز المعنوية تربطنا بذلك العالم الآخر، ولهذا الرجل آراء غريبة في هذا المجال (فيقول: بأن الفلسفات الميتافيزيقية هي في واقعها، مترجمة عن لغة أُخرى؛ بمعنى أن الإنسان يتوهم بأنه قد توصل لمسائل ما وراء الطبيعة بفكره وعقله، ولكن ليس كذلك، بل إنها في الواقع نداء قلبه توصّل إليه، القلب بلغة أخرى؛ وبعد ذلك، خلع عليها- بلغة العقل- ثوباً فلسفياً.عبر ذلك من الآراء الأخرى في هذا المجال) .

3-الكسيس كارليل: حيث يذكر في كتابه (الدعاء):- بأنّ الدعاء أسمى حالة دينية مقدسة للإنسان، حيث تُحلّق فيها روح الإِنسان لله؛ ويذكر أيضاً: توجد في الوجدان الإِنساني شعلة تُعرِّف الإِنسان على خطاياه وانحرافاته أحياناً، وإنّ هذه الشعلة هي التي تصدّ الإِنسان عن الوقوع في الخطيئة والإِنحراف؛ ويقول أيضاً: بأنّ الإِنسان أحياناً، وفي بعض حالاته الروحية، يشعر بجلال المغفرة وعظمتها.

4-أنشتاين يقول: بأنّ المشاعر التي أدّتِ إلى نشأة الدين مختلفة، والدافع التي تدفع شتّى الفئات إلى الالتزام بالدين مختلفة أيضاً.           
 ويقول: (بأنّ الخوف في الإِنسان البدائي، هو الذي يشكّل الإِرضيّة لنشأة الدين عنده؛ الخوف من الموت، الخوف من الجوع، من الحيوانات الكاسرة، من المرض؛ وتخلق له ذهنيته المحدودة الضئيلة، وغير المتطوّرة، بعض الموجودات المتشابهة، وبعد ذلك يصنعها بيديه، وفكره؛ وبعد أن يخلقها بنفسه، يفكّر في كيفية التخلّص، من غضبها وسخطها، وكيف يجلب رضاها، وهذا الدين لا بُدّ أن نسميه بدين الخوف، والإِله الذي يدعو هذا الدين لعبادته، ليس ألهاً حقيقيّاً، إنّ هذا الدين يؤدّي إلى عبادة الوثن.
ويقول أيضاً- والصفة الإِجتماعية لدى البشر، هي أيضاً بدورها من دوافع الدين؛ فإنّ الإِنسان يرى بأنّ الموت، يختطف أباه وأمّه وأقرباءه والزعماء والكبار، يأخذهم الواحد تلوَ الآخر؛ ويشعر بالفراغ. حيث تخلو دنياه منهم: إذن، فالأمل بوجود الهادي والموجّه، الأمل بأنّ يكون محباً أو محبوباً، وأنْ يعتمد على الغير، وأنْ يتخلّص من اليأس؛ كلُّها، تشكّل فيه الأرضية لتقبّل الإِيمان بالله).

ويعتقد أنشتاين: بأنّ الإِله الذي يندفع إليه هذا الشعور، هو إله غير حقيقي أيضاً؛ فإنّ الصفات المفروضة له صفات بشرية، والكتب المقدّسة للمسيحية واليهودية، تعترف بمثل هذا الإِله، ولكن هذا الدين أكثر تطوراً من دين الخوف بدرجة واحدة.
وبعد ذلك يقول: (ولكن يجب أنْ لا ننسى، بأنّ هناك بعض الأفراد أو الجماعات، رغم فلتهم، قد توصّلوا إلى التعرف على المعنى الواقعي الحقيقي لوجود الله، وراء كل هذه الأوهام، والخيالات؛ يشتمل هذا الإِله على الخصائص والمشخّصات المتعالية، ولا يُقاس بالعقيدة العامّة تلك)؛ ويقصد بذلك، أنّ المجتمع الذي تتعد الأديان فيه، لا يعني ذلك، أن عقائدهم في الإِله واحدة في المستوى. والسطحية والبدائية: فإنّ بعض الأفراد، وفي مثل هذه المجتمعات، يؤمنون بإله تتوافر فيه كل خصائص الإله، الذي هو أهلٌ للقداسة والعظمة.

ويقول بعد ذلك: (وهناك دين وعقيدة ثالثة، متواجدة في الأذهان كلها، وبدون استثناء؛ وإن كنت لا تعثر على تصور واحدٍ لها، وعلى صورتها الخاصة عند الجميع، وأنا أطلق على هذه العقيدة: (الإحساس الديني للوجود)، ويصعب عليّ توضيح هذا الإِحساس لمن يفتقده، وبالخصوص أنّ البحث هنا ليس حول ذلك الإِله، الذي يظهر بصورٍ ومظاهر مختلفة: إنّ هذه العقيدة تُعرِّف الإِنسان على ضآلة الآمال والأهداف البشرية، وعظمة ما وراء الموجودات الطبيعية، يشعر بأنّ وجوده سجن، ويطمح في التخلص من سجن البدن، ويحلّق عالياً، ليعثر على الوجود كله مرة واحدة، وبحقيقته الواحدة).
وعلى ضوء هذا الرأي، فإنّ الناس جميعاً، وبالخصوص أولئك الأفراد الذين بلغوا مرحلـةً من الرشد والتطور، يمتلكون هذا الإِحساس وهو التخلص من وجودهم المحدود، والتوصل إلى قلب الوجود؛ هناك دافع ورغبة في الإِنسان، لا تستقرّ ولا تهدأ، ولا تطمئنّ، إلاّ إذا اتّصلت بمنبع الوجود؛ والله وهذه الحقيقة المقدسة هي التي يعبّر عنها القرآن الكريم:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}(الرعد/28).

ويظهر من ذلك أنّ الفرضيات التي يذكرها المنكرون لفطرية الدين، حول نشأته مختلفة وليس لهم رأي موحّد في هذا المجال.
ومما يُثير العجب أنّ البعض منا، يؤمن بمثلِ هذه الفرضيات، كما يؤمن بمعادلـةٍ كيميائية، أو نظرية فيزيائية وطبيعية.
رغم الإِختلاف الكبير في هذه الآراء، ورغم وجود الكثير من المفكرين المعاصرين، الذين قد اعترفوا بفطرية الدين، وحاولوا إثبات ذلك بمختلف المحاولات، ومن هؤلاء آنشتاين، ولعلّه أعظم علماء العصر الحديث باعتراف الغرب نفسه، فكيف يكون الدين وليد الجهل؟
كان هذا الحديث كله حول الدين كحاجةٍ فطريةٍ.

الدين الوسيلةُ الوحيدة لإِشباع الحاجات

والآن يدور حديثنا حول كون الدين، هو الوسيلة الوحيدة لإشباع الحاجات والرغبات البشرية، ولا يمكن لغيره أنْ يحلّ محلّه.
فقد اعتقد البعض قبل زمنٍ ليس بالبعيد، بأنّه بتقدم الإنسان وتطوره، ستنعدم الحاجة للدين، لأنّ العلم سيُشبع حاجات البشر ورغباته.
ولكنّ اليوم وبعد التطور الكبير للعلم، قد لمسوا احتياجهم الشديد في سعادة الفرد والمجتمع ( فقد اتضح للجميع، أنّ العلم لا يسد حاجة البشرية للدين، كشرط ضروري للحياة السوية السليمة، فالإنسان يحتاج للدين، في حياته الفردية والإجتماعية، فإنّ الإِنسان حين تخطر الأبدية في ذهنية، سيرتبط بعالم آخر).
وهذه القدرة على التفكير والتصوّر لدى الإنسان، تخلق فيه مشاعر الأبديّة والخلود؛ التفكير في حياةٍ أخرى، غير الحياة الدنيوية المؤقتة؛ ومثل هذه الميول الواسعة الأبدية لا تتلائم وقواه البدنية المحدودة الفانية؛ أي: أنّ الإِنسان يشعر من ناحية بوجود هذه الميول والتصورات الوسيعة الكبيرة في نفسه، ومن ناحيةٍ أخرى يرى جسمه وبدنه محدوداً زائلاً، فيحسّ بتوتّر واضطراب هائلين.
حيث يلاحظ بفزع، عدم التعادل والتوازن بين حاجاته ورغباته، واستعداداته البدنية، فإنّ الإِحساس بالحرمان من الخلود يسحقه، يمزّقه، يغبط الحيوانات التي تعيش تلك الحياة المحدودة، حيث تتساوى مساحة فكرها، مع مساحة استعدادها البدني، ولا تفكر في البقاء والأبدية، ختى تتأجج في أعماقها الآمال، والحاجات الكبيرة ليمزّقها تصور الفناء وعدم تحقيق أحلامها.
فلو كان الإنسان سيفنى، بعد رحلة العمر، فإنّ هذا التصور سيشعره بعدم التوازن، بين أفكاره ورغبات روحه، وبين استعداداته؛ قيبرز أمامه هذا السؤال: إذا كان مصيره الفناء، فإلى أيّ مدى ستكون هذه التصورات والميول الوسيعة مؤلمة، وغير مثمرة؟
وكثيراً ما سعى الإِنسان، وأجهد نفسه في البحث عن الخلود والبقاء، وكل هذه الجهود والأعمال التي يبحث في أحضانها عن البقاء، وليدة هذا الإحساس وهذا الأمل بالخلود، ومنها الأعمال التي يقوم بها البعض ليثبتوا بقاءهم بعد الحياة من خلالها.
ولكنها خيالات وأوهام، لا تعتمد على أساسٍ منطقي، فإنّه يتوهم أنّه باق بتمثاله بصورته بمؤلفاته، بذكرياته؛ كلا، أنه لن يبقى بل سيموت وكثير من الجرائم يقترفها البعض، لأجل التوصّل لهذا الأمل، وإلى إثبات بقائه، ولكنها جهود لا طائل فيها: فأيّ لذة سسيشعر بطعمها، بعد موته؟ وما تُجديه لذة الشهرة بعد أن تنطفئ حياته؟ فإنّ الحي هو الذي يشعر بهذه اللذة.
إنّ الوسيلة الوحيدة التي تشبع هذه المشاعر والرغبات، بصورة تامة ومقنعة، هو الشعور والاعتقاد الديني.
ويذكر فروغي في كتابه رسائل العظماء ورسالة عن فيكتور هوجو، تؤكد هذا المعنى، أن الإِنسان حين يعتقد بأنّه فانٍ، وأنه لا يوجد بعد هذه الحياة إلاّ العدم المطلق، فأنّه خينئذٍ سيفقد الإِحساس بقيمة الحياة ولذتها.
والشيء الوحيد الذي يبعث فيه الإِحساس باللذة، والنشاط والرؤية الواسعة، هو الدين: حيث يوفّر فيه الإِعتقاد بالبقاء والخلود، وبوجود حياة أُخرى أبدية، وإنّ هذه الحياة مؤقتة، وإنك أيُّها الإِنسان أكبر من الحياة الدنيا.
وحين يسأل تولستوي عن تعريف الإِيمان؟ يُجيب: بأنّ الإِيمان هو الذي يحيا به الإِنسان، إنه رصيد الحياة).
ولنقارن هذه الفكرة مع طريقة التفكير لدى بعض الأفراد، الذين يعتقدون بأنّ الدين قيد، وأنّ اللادينيّة حرية وانطلاق.
إنهم يتوهمون بأنّ الحرية تعني: التحرّر من كل قيد، وعليه فيكون التحرّر من العقل، والإنسانية، والأخلاق، والشرف، وغيرها من القيم، أيضاً تحرراً وانطلاقاً.

وحين قرأت هذا الحديث عن تولستوي، خطر في ذهني ما قاله خسرو مخاطباً إبنه:-
(أعرضتُ عن الدنيا، ووجهتُ وجهي للدين، لأنّ الدنيا بدون دين، كالبئر العميقة، كالسجن، إنّ للدين في أعماق قلبي ملك عظيم لا يتعرّض للدمار، والإنهيار أبداً).

الدين رصيد الأخلاق والقانون
 
الأخلاق والقانون يشكّلان الأساس، والقاعدة الرئيسية، التي يعتمد عليها بناء المجتمع البشري؛ وإنّ الرصيد الوحيد لهما هو الدين فحسب.
والقول بعدم احتياج الأخلاق، في تحققها، للدين، غير صحيح؛ فإنّها كالعملة الورقية، لو لم يكن لها رصيد يسندها من الذهب وغيره، تعتمد عليه، فإنّها ستفقد قيمتها.
إنّ هذا الرأي حول الأخلاق والقانون، تماماً، كلائحة حقوق البشر، التي اقترحتها فرنسا وأخذت في نشرها، والدعاية الواسعة لها؛ ولكنها كانت أولَ مَنْ سحق هذه الحقوق، وضربت بها عرضَ الجدار، لأنَّها لم تعتمد، في أساسها، على إيمانٍ نابع من فطرة البشر.
وحين أرادت فرنسا، أن تمنح حقّ الاستقلال للجزائر، عارض هذا الإقتراح، بعض القادة الفرنسيّين، أمثال جورج بومبيدو، وقد كان آنذاك، زعيم الإِشتراكيين الفرنسيّين، وضمّ صوته للمنظمات التي تطالب بإِبادة الشعب الجزائري.
أجل، إنّ هؤلاء، هم الذين وقّعوا على لائحة حقوق البشر.
إن جميع المقدسات والقيم الخلقية، والقوانين، التي يحفل بها المجتمع البشري، أمثال: الحرية، والعدالة، والمساواة، والإنسانية، والشعور بالمسؤولية، وغيرها؛ لو لم تعتمد في أساسها على الدين، فلا يمكن أنْ يكون لها واقع، ولا يمكن أنْ نضمن تطبيقها، وتحقيقها.
يقول إلكسيس كارليل: لقد تقدّمت، وتطوّرت العقول كثيراً؛ ولكن مع الأسف، لم تزل القلوب ضعيفة؛ والإيمان فحسب هو الذي يبعث القوة في هذه القلوب، وانحرافات البشر كلها ناشئة من هذه الحالة، وهي قوة العقول، وضعف القلوب؛ فماذا فعلت الحضارة والمدنية الحديثة؟ إنّها تُخرج يومياً، للأسواق، الكثير من البضائع والمنتوجات الجيدة (ولكن ماذا فعلت للإنسان؟ ما الذي يتمكن من تغيير الإنسان وتوجيهه للأهداف المقدسة السامية؟ ليكون صاحب قلب، حيث يهتف من أعماق قلبه:-
(الدنيا لا تمتلك قيمةً ما: لا تُثير الاضطراب والقلق في قلبٍ آخر، حذارِ من العمل السيء، إنّ العاقل لا يفعل ذلك). .

ليس هناك شيء غير الدين، يوجّه للأهداف المقدسة السامية، أنّ الإِنسانية لا تنفك عن الدين والإيمان؛ وإذ لم يوجد دين، فلا وجود للإنسانية.
عوامل الإِنحراف عن الدين

وهنا يبرز سؤال، إذا كان الدين فطرياً، فلماذا يخرج الناس منه، وينحرفون؟
والبحث عن العوامل المؤدية للإِعراض عن الدين، بحث طويل؛ وهذا السؤال يطرح بالخصوص على أولئك المعتقدين بفطرية الدين.
وأنقل هنا عن الكتاب: (الله يتجلّى في عصر العلم) حديثاً حول هذا المجال؛ حيث تعرّض (وولنز أوسكار لندنبرج)، في مقالته لعوامل الإِنحراف، فذكر عاملين:
يقول: ويرجع فشل بعض العلماء، في فهمهم وقبولهم لما تدلّ عليه المبادئ الأساسية، التي تقوم عليها الطريقة العلمية من وجود الله والإيمان به، إلى أسبابٍ عديدة نخصّ اثنين منها بالذكر:

1-يرجع إنكار وجود الله في بعض الأحيان، إلى ما تتبعه بعض الجماعات أو المنظمات الإِلحادية أو الدولة: من سياسة معينة ترمي إلى شيوع الألحاد، ومحاربة الإِيمان بالله، بسبب تعارض هذه العقيدة مع صالح هذه الجماعات أو مبادئها.

2-وحتى عندما تحرر عقول الناس من الخوف، فليس من السهل أنْ تتحرّر من التعصب والأهواء؛ ففي جميع المنظمات الدينية المسيحية، تُبذل محاولات لجعل الناس يعتقدون منذ طفولتهم، في إله هو على صورة الإِنسان، بدلاً من الاعتقاد بأنّ الإنسان قد خُلق خليفة الله على الأرض، وعندما تنمو العقول بعد ذلك، وتتدرب على استخدام الطريقة العلمية، فإن تلك الصور التي تعلموها منذ الصغر، لا يمكن أن تنسجم مع أسلوبهم في التفكير، أو مع أيّ منطق مقبول؛ وأخيراً عندما تفشل جميع المحاولات في التوفيق بين تلك الأفكار الدينية القديمة، وبين مقتضيات المنطق والتفكير العلمي، نجد هؤلاء المفكرين يتخلّصون من الصراع بنبذ فكرة الله كُلّيةٍ؛ وعندما يصلون إلى هذه المرحلة، ويظنون أنهم قد تخلّصوا من أوهام الدين؛ وما ترتب عليها من نتائج نفسية، لا يحبّون العودة إلى التفكير في هذه الموضوعات؛ بل، يقاومون قبول أية فكرة جديدة تتصل بهذه الموضوعات، وتدور حول وجود الله).
   إنّ هذين العاملين كانا سبباً لانحراف الكثيرين عن الدين فإنّ الكثير والمثقفين منهم بالخصوص قد انحرفوا، لتعرّفهم على المفاهيم الدينية إبّان طفولتهم؛ من الأبوين اللذين لا يمتلكان معرفة صحيحة، حولها، أو بسبب دعاة الدين الجهلاء، الذين لا يملكون إلاّ هذه التصورات الخاطئة والمشوّهة، بحيث لا تتلائم مع العقل والعلم والمنطق.
ومن الواضح أنّ الإنسان  حين ينضج عقلياً، ويتعرّف على المنجزات العلمية، والمنطقية، فلا يمكنه أن يتقبّل مثل هذه التصورات والمفاهيم المشوّهة، غير المعقولة وغير المنطقية، للمفاهيم الدينية؛ ومن هنا يندفعون للإنحراف، أو الإلحاد؛ لأنهم يعتقدون بأنّ الإِيمان بالله، يتحدّد بهذه الصورة المشوّهة، التي عرفتها أذهانهم؛ لذلك ينكرون الله.
ولعلّ هذا هو الدافع، لانحراف الكثيرين من المثقفين عن الدين، وبالحقيقة أنهم لا يرفضون المفاهيم الحقيقية لله والدين، بل مفاهيم أخرى.
وإن الكثير قد انحرفوا، نتيجة للإِيحاءات الغبيّة المشوهة للأمهات، والآباء والمبلّغين الجهلة؛ لذلك امتلأت أذهانهم- في مجال المسائل الدينية- بالكثير من التصورات، والمفاهيم الخاطئة؛ وهي التي دفعتهم إلى التشكيك في الدين؛ بل إلى الإعراض عنه؛ ومن هنا يلزم علينا أن بذل جهوداً كثيرةً، من أجل عرض الصورة الصحيحة والحقيقية للأصول، والمسائل الدينية.
وقد أحسستُ شخصياً بهذه الحقيقة المرة، لذلك بذلتُ مختلف الجهود والنشاطات، وبشتّى والوسائل؛ من أجل توضيح المفاهيم والتصورات الإسلامية الأصيلة، بصورتها الحقيقية، غير المشوّهة والمنحرفة، وقد دلّت تجاربي في هذا المجال، على أنّ هذا العمل كان ناجحاً ومثمراً جدّاً.
ولكن لا تنحصر عوامل الإِنحراف في هذين العاملين، فهناك عوامل نذكر بعضها:-
1-من العوامل التي تؤدي لانحراف الناس وتنفرهم من الدين والله، وكل القيم المعنوية، هو تلوّث المحيط، بالأوحال الشيطانية، وغرق الأفراد، وغيبوبتهم في عبادة اللّذة، والشهوة، والهوى؛ حيث تحفل تلك البيئة الإجتماعية، بكل ما يُشعل لهيب الشهوة، والغرائز الحيوانية؛ ومن الواضح أنّ الغيبوبة في الشهوات الحيوانية المنحطة،تتنافى وكل المشاعر السامية، ساء كانت دينية أو أخلاقية أو علمية أو فنية أو غيرها؛ فإنها، كلها ستموت، وتنطفئ، نتيجة الحياة الحيوانية هذه.
فإنّ عابد الشهوة، والغارق بأوحالها، كما لايحسّ بالمشاعر الدينية الرفيعية؛ كذلك يفقد الإحساس بالعزّة والشرف، والسيادة، والرجولة، والشجاعة، والتضحية؛ ويغدو أسيراً لشهواته المادية الحسية، ويضعف ويضمر إحساسه بالأمور المعنوية جميعها، سواء الدينية منها أو الأخلاقية أو العلمية أو الفنية وغيرها.
لذلك لو أرادت أُمة، أنْ تقتل من الأُمة الأخلاقية، روح الدين، والأخلاق، والشجاعة،والرجولة؛ عليها أنْ تغرقها بوسائل اللهو، وموائد الشهوة اللذة؛ وتجارب التاريخ تشهد على هذه الحقيقة المرّة.
وما حدث في الأندلس الإسلامي، حين خرج من يد المسلمين، هو نموذج لذلك، فقد وفّر أعداء الإِسلام لهم كل وسائل المتعة المحرمة، ومُثيراتها؛ فقد أوقفوا الحقول النضرة لصنع الخمرة، وغمروها بالحانات والقتيات المنحرفات، اللواتي أخذن يخطرن بكل خلاعة في شوارعها؛ فماتت روح الدين والشرف؛ ونتيجةً لذلك تمكّن أعداء الدين من السيطرة على الأندلس-بكل سهولة، ونجحوا في إبادة المسلمين. 

وقد استخدم الإستعمار الغربي اليوم هذه الطريقة، وبصورةٍ أكثرِ دِقّةً في البلاد الإِسلامية.

إذن، فالغرق في الشهوات، يؤدّي إلى ضمور الإحساس الديني، وضعف تأثيره (بل ربما يؤدي إلى التنفّر منه) : بل، وقد صرّح القرآن الكريم بذلك؛ فإنه لو صارت القلوب قاتمةً، مظلمة، وتكدرت وقسمت، فحينئذٍ لا يجد نور الإِيمان منفذاً إليها؛ كما في قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَاسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}(المنافقون/6) .
2-إنّ البعض مِمّن حملوا مسؤولية الإرشاد للدين، لم يعرفوا واقع الدين وحقيقته، ولا أسلوب الدعوة إليه؛ فبدلاً من الدعوة إلى تعديل الغرائز البشرية، وتوجيهها التوجيه الصحيح، نراهم يدعون لمحاربة الغرائز والميول الفطرية البشرية، ويشيعون بأنّ الدين يعادي هذه الغرائز الفطرية، ويدعو إلى القضاء عليها.
فإنّ للبشر رغبات، وغرائز، فطرية كثيرة، وكلها دخيلة في تكامل الإنسان وسعادته.
فالرغبات لم تُخلق عبثاً ولغواً، حتى تقتل وتحارب؛ ويقضي عليها: كما هو الأمر في أعضاء الإنسان الخارجية، فلم توضع عبثاً في بدن الإنسان.
كذلك ميول الإنسان، فإنّ هناك الكثير من الميول الفطرية، أمثال حب الاستطلاع والمعرفة، والرغبة في الثروة، والميل لتشكيل الأسرة؛ ومنها الدافع الديني أيضاً.
ولا يُوجد بين هذه الميول صراع وقتال، ولا تضاد وعداء حقيقي، وكل واحدة منها لها نصيبها في مجال العمل: فإذا استعملت في حدودها المقرَّرة لها، وإذا منح لها نصيبها بعدالة، فسوف تعيش فيما بينها بسلام، وإنما يبدأ الصراع بينها حين يعطي الفرد لأحدها نصيباً أكثر، على حساب الميول الأخرى، فيشبعها أكثر من الحدّ المقرّر لها.
ومن مميّزات الإِسلام إنّه قد اعترف بجميع الميول الفطرية في الإِنسان، ولم يرفضها، ولم يمنح لإحداها، سهماً ونصيباً أكثر ما تستحقه.
وهذا هو معنى فطرية التعاليم والقوانين الإسلامية، أي تلاحم هذه القوانين، وعدم عدائها ومعارضتها للفطرة البشرية؛ أي كما أنّ الإِيمان والعبادة في الإسلام، من أجل تربية وتنمية الإحساس الفطري الكامن في النفس الإنسانية، وكذلك التعاليم الإسلامية، فإنها متلائمة مع الفطرة البشرية ومتلاحمة معها.
ولكن بعض الأفراد الذين يتظاهرون بالتقدّس والزهد، والذين يدّعون بأنّهم الدعاةِ إلى الدين، يحاربون كل شيء باسم الدين، ويؤفعون هذا الشعار في أحاديثهم، وخطاباتهم، فهم يقولون: لو أردت أن تصبح مؤمناً، متديّناً حقّاً؛ فيجب أن تقتل في نفسك كل الميول والغرائز: الميل للثروة، والغريزة الجنسية، والرغبة في الزوجة والأولاد، والرغبة في المعرفة والاستطلاع، والظهور، واقبع في غرفتك، منعزلاً بعيداً عن المجتمع؛ وعلى وفق هذا الرأي إذا أراد الفرد أن يستجيب للدافع الديني، فيلزم عليه أن يحارب الدوافع والميول الأخرى كلها.
ولكن لو فُهِم الزهد بأنّه الهروب من المجتمع، والعزلة، وترك العمل؛ لو عُرِف الدين أنّه يحارب الغرزة الجنسية، وأنه يعتبرها أمراً قبيحاً، يجب على المتدين اجتيازها، وعدم الاستجابة لها، والإنسان الأفضل، هو الذي يتجنب المرأة طوال عمره، وكذلك لو عرف عن الدين أنّه عدوّ العلم، وأنّه يحرض على إحراق العلماء وقتلهم، والتنكيل بهم، وغيرها من الشائعات والتصوّرات الخاطئة والمنحرفة عن الدين؛ نعم، هذه وغيرها، ستزرع في النفوس العداء، لمثل هذا الدين.
فيلزم على دعاة الدين:

1-أنْ يتعرفوا على التعالية الدينية الأصيلة، وأن يكونوا بأنفسهم من العلماء والمحقّقين في المسائل الدينية، وأن لا يلقوا في أذهان الناس، تلك التصورات والمفاهيم المنحرفة، وغير المعقولة، باسم الدين، حيث أنّ هذا الفهم للدين يؤدّي إلى الإنحراف عنه، وإلى الكثير من التيارات المعارضة له.

2-تطهير البيئة الإجتماعية من الأوحال التي تلوثها.

3-أن تكون لهم تلك الرؤية الواقعية للغرائز كلها، فلا يحاربون الغرائز الفطرية، باسم الدين، وآنذاك سترى بأنّ الناس{وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا}(النصر/2).