لا شك إنكم قد سمعتم بالمد و الجزر في البحر . فالبحر في مد وجزر مستمرَّيْن ، وعندما يصيب المد هذا الجانب يحدث مثله في الجانب الأخر ، ولقد ثبت منذ القديم أنَّ للقمر تأثيراً في المد والجزر . وإنَّ البحر دائم الهيجان ودائم المد والجزر ، تمتد من هنا وتجزر من هناك . إنَّ روح الإنسان ، وبالتالي المجتمع الإنساني ، فيه هذه الحالة من المد والجزر الموجودة في البحر ، فروح الإنسان في مد وجزر دائمين ، ينجذب من هنا ومن هناك ، وكذلك الأمر في المجتمعات ، فمرة تنجذب إلى هذا الجانب ، ومرة إلى ذلك الجانب . طبيعي أنَّ المجتمع قد ينجذب بفعل الأفراد أو بفعل أحداث أخرى ، إلا أنَّ الانجذابات الأرضية الحيوانية ، بل إنَّ القيم الإنسانية عند الإنسان كذلك أيضا ، فانتم قد تشاهدون أشخاصا يتمسكون حقا بالقيم الإنسانية ، إلا أن إحدى هذه القيم تتمدد فيهم ويكبر حجمها حتى تنسى جميع القيم الأخرى . فهؤلاء أشبه بذاك الذي تنمو فيه إذنه فقط ، أو أنفه فقط . إنَّ اغلب الانحرافات في المجتمعات ناشئ من عدم الانسجام والتناسب إنَّ المجتمع لن ينحرف مائة بالمائة عن طريق الباطل ، بل الأغلب أنْ ينحرف المجتمع بسبب الإفراط في حق من الحقوق . فمثلا إن واحدة من القيم الإنسانية التي يؤيدها الإسلام مائة بالمائة هي العبادة والعبادة هي ذكر الله ، والعبادة بمعناها الخاص . ففي الإسلام كل ما يفعله الإنسان لله عبادة .
فعندما يخرج للتكسب بهدف سد حاجته وحاجة عياله ، وخدمة مجتمعة ، يكون قائماً بالعبادة بالمعنى الخاص ، كالخلوة مع الله ، والصلاة والدعاء والمناجاة والتهجد ، وهذه أجزاء من متون الإسلام ولا يمكن حذفها من الإسلام . هذا بذاته قيمة من القيم الحقيقية ، ولكن إذا لم تراقب وتوضع لها الحدود فقد ينجذب المجتمع إلى هذه القيمة فحسب ، وعندئذ لا يكون الإسلام إلا عبادة ، ويصبح فقط الذهاب إلى المسجد ، وإقامة الصلوات المستحبة ، والدعاء ، والتعقيبات ، وأداء الاغسال المستحبة ، وقراءة القرآن ، أي الاتجاه إلى أمور إذا أفرط المجتمع في السير فيها ، لانمحت كل القيم الأخرى من المجتمع ، كالذي رأينا أنّه حدث في تاريخ الإسلام حيث ظهر مد من هذا القبيل في المجتمع الإسلامي ، كما أننا نلاحظ أفراد سليمي النية ولا يمكن اتهامهم بشيء . ولكنهم واقعون على هذا الطريق ، ومن يقع في هذا الطريق لا يمكنه إن يحتفظ بتعادله ، ولا يستطيع أن يقول : إنني إنسان وأن الله قد خلقني إنساناً ولم يخلقني ملكاً ، فلو كنت ملكاً لكان علي أن اذهب إلى الطرف الآخر . على الإنسان أنْ ينمي في نفسه أفكاراً مختلفة وإن ينميها في تجانس وتناسب .
قيل للنبي الكريم أن بعضا من أصحابك قد غرقوا في العبادة . فغضب النبي (ص) وجاء المسجد ونادى في الناس وقال إنه سمع إن فيهم من يوصل الليل بالنهار عبادة مع إنه وهو نبيهم لا يفعل هكذا بل يستريح بعض الليل ، وينام ، وينظر عياله ويقارب زوجته ، ولا يصوم الأيام كلها ، بل يصوم في بعض ويفطر في بعض . وقال إن أولئك خارجون عن سنته .
عندما يرى النبي (ص) إن إحدى القيم الإسلامية تغطي على القيم الأخرى ، أي أن المجتمع الإسلامي قد أصيب بالمد إلى ناحية واحدة ، فإنه يحارب ذلك شديداً .
كان لعمر بن العاص ولدان ، عبد الله ومحمد . كان محمد أقرب إلى طراز أبيه للدنيا وللرئاسة ، بينما كان عبد الله تقيا نجيبا . عندما كان يستشيرهما أبوهما ، كان عبد الله يدعو أباه للالتحاق بعلي (ع) ، وكان الآخر يمنعه من ذلك قائلا أنه لن يجد خيراً مع علي ، ويحثه على الالتحاق بمعاوية . وكان المعروف عن عبد الله إنه يميل إلى العبادة . وقد التقاه النبي (ص) مرة وقال له : سمعت إنك تحتي الليل بالعبادة حتى الصباح ، وتصوم نهارك . فقال : نعم يا رسول الله ، إني كذلك فقال رسول الله : ولكني لست كذلك ولا ارتضيه ، ولا يصح .
قد ينحرف مجتمع ما نحو الزهد ، والزهد حقيقة واقعة غير قابلة للإنكار . ولكن الزهد قيمة من القيم لها آثارها وفوائدها ، وإنَّه لمن الممتنع المستحيل أنْ يرى مجتمع وجه السعادة ، أو في الأقل يمتنع أن نعد مجتمعا من المجتمعات إسلاميا بغير أنْ يكون عنصر الزهد موجودا في تلك المجتمع . ولكن قد يحدث أََنْ يجر هذا العنصر المجتمع نحوه ، ويصبح كل شيء زهداً ، ولا شيء غير الزهد .
من القيم الأخرى خدمة الناس ، وهي من القيم الإنسانية الثابتة والإسلام يؤيدها مائة بالمائة والحقيقة إنَّ هذه من افضل القيم الإنسانية ولكم أكد الرسول الكريم عليها ، وما أكثر ما يحث عليها القرآن وعلى التعاون ومديد المساعدة للناس .
{ لَيْسَ البِرَّ أن تُوَلًّوا وُجوهَكُمْ قِبَلَ المشرقِ والْمَغْرِبِ ولكنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بالله واليَوْمِ الآخِرِ والملاِئكَة والكِتَابِ والنبيينَ وآتى المالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِيِ القُربى واليَتامى والمسَاكِينَ وابنَ السَّبِيلِ والسَّائِلينَ وَفي الرِّقابِ ...} سورة البقرة الآية 177 .
وهذه من القيم غير القابلة للإنكار . ولكن قد يبالغ المرء فيعتبر ، كما يقول سعدي ، أن " العبادة ليست سوى خدمة الناس " وإن لا عبادة غير ذلك ، ويلغي باعتباره هذا القيم الأخرى ، فينكر العبادات الأخرى في الزهد ، وفي العلم ، وفي الجهاد ، وينكر كل تلك القيم الرفيعة العظيمة في الإسلام ، ولا يعترف إلا بقيمة واحدة وعبادة واحدة هي خدمة خلق الله .
واليوم يرى بعض المتنورين ، خصوصا ، إنه قد اكتشف منطقا ساميا جدا ، وأطلقوا على ذلك المنطق الرفيع اسم الإنسانية وحب البشر . فما معنى حب البشر ؟ أَنْ تخدم الناس أمر حسن جدا ، فلنخدم الناس ، بصرف النظر عمن يكونون . إنما نحن نخدم الناس فقط . خدمة خلق الله لا بد منها ، بغير تمييز . حسن ، لنفرض إننا قد ملأنا بطون خلق الله وكسونا أبدانهم ، إلا أننا نكون قد خدمنا حيوانا ، إذا أننا إذا لم نعترف لهم بمقام أعلى ، ونحصر كل القيم في خدمة خلق الله ، بغير أنْ تكون فينا قيمة من القيم ، ولا أنْ تكون في الآخرين قيمة من القيم فإن جميع خلق الله لا يزيدون على قطيع من الأغنام أو من الخيل . صحيح إننا ملأنا بطونهم وكسوناهم ولكن الهدف الأعلى للبطون هو أن تمتلئ ، مع بقاء الحيوانية على حالها ، و أنا أيضا يكون الحد الأعلى لخدمتي هو أن اخدم حيوانا مثلي ، وتكون الأهداف العليا لأمثالي من الحيوانات هي أن تخدم حيوانات أخرى مثلبي ، لا خدمة الإنسان الذي يتصف بالإنسانية , فإذا كانت خدمة خلق الله لا تتجاوز هذا الحد ، بصرف النظر عن نوعية هذا الخلق ما دام من خلق الله ، وبغير تمييز بين أن أخدم أبا ذر أو أن أخدم معاوية ، وإذا لم يكن لخلق الله غير هذه المنزلة ، فهذا أيضا ضرب من الإفراط .
أو خذ الحرية مثلا . فالحرية واحدة من أعظم القيم الإنسانية وأرفعها ، أو قل إنها من القيم المعنوية ، أي من القيم التي تعلو على حدود حيوانية الإنسان . الحرية للإنسان أرفع بكثير من القيم المادية . إنَّ الإنسان الذي سبق أنْ شم رائحة الإنسانية ليرتضي العيش جائعاً وعارياً ويتحمل اشق ظروف الحياة على إن لا يكون أسير شخص آخر ، ولا يقع تحت حكم إنسان آخر ، بل إن يعيش حراً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق