الخميس، 19 أبريل 2012

ثورة الحسين (ع) ثورة الادراك - الشهيد مرتضى مطهري


نهضة الحسين عليه السلام فهل هي وليدة الانفجار النفسي؟ كماء يغلي في قدر مقفل إذا لم يلق البخار المتصاعد منه منفذاً للخروج يؤدي إلى انفجار القدر بتأثير ازدياد درجة الحرارة؟

     إن الإسلام اختلف عن بعض النهضات التي جاء نتيجة انفجارات خاصة، فالفكر الدياليكتيكي يوصي بتصعيد التناقضات وإثارة الاستياء وتعميق الخلافات أكثر فأكثر وإبداء المعارضة للإصلاحات الواقعية لدفع المجتمع إلى الثورة بمعناها الانفجاري لا الثورة الواعية.

     إن الإسلام لا يؤمن مطلقاً بمثل هذه الثورة، وقد كانت الثورات أو النهضات الإسلامية كلها وليدة وعي وإدراك كاملين للواقع الذي جاءت لتغييره، وإن ثورة الحسين عليه السلام لم تكن وليدة الانفجار ولم تكن عملاً بعيداً عن الوعي ولم تنشأ نتيجة نفاذ صبر الحسين علية السلام بسبب الضغوط الكثيرة التي كانت تمارس من قبل الأمويين وعمالهم أيام معاوية وابنه يزيد بحيث تؤدي به إلى أن يثور ويقول: فليكن ما يكن ! كلا لم تكن نهضة الحسين عليه السلام بمثل ذلك، ويدل على هذا الرسائل المتبادلة بينه وبين معاوية وابنه يزيد من بعده. بالإضافة إلى الخطب التي أوردها في مجالات مختلفة خاصة تلك التي خاطب بها صحابة الرسول (ص) وهم مجتمعون في منى. وقد نقل حديث هذه الخطبة بصورة مفصلة في كتاب تحف العقول، إن الأدلة المشار إليها كلها تبين أن الإمام الحسين عليه السلام ثار وهو مدرك كاملاً سبب قيامه ولم تتدخل في نهضته عوامل الانفجار النفسي مطلقاً، بل كانت ثورة إسلامية محضة.

     والحسين عليه السلام إذا نظرنا إلى كيفية تعامله مع أصحابه أثناء عزمه على القيام نرى أنه يتحاشى الاستفادة من أي عامل من العوامل التي تؤدي إلى حدوث الانفجار النفسي والعاطفي ولا يسمح بأن تنطبع نهضته بالطابع الانفجاري من ذلك محاولاته العديدة في مناسبات مختلفة لصرف أصحابه عن الاشتراك معه في نهضته التي كان على علم مسبق بنتيجتها، فكان يكرر عليهم قوله أن لا منافع مادية أمامهم في مسيرتهم تلك وأنه لا ينتظرهم غير الموت المحتم، وفي ليلة العاشر من محرم نراه عليه السلام يمتدح أصحابه فيقول بأنهم خير الأصحاب، ويكرر عليهم بأنه هو المطلوب من الحكم الأموي وليس غيره، ويؤكد لهم بأنهم لو تركوه لوحده فلن ينالهم سوء من الأمويين ويخيرهم بين البقاء والذهاب وأخذ أهله لإبعادهم عن الصحراء التي هو فيها.

     لا نجد زعيماً يريد استثمار استياء وتذمر قومه لدفعهم إلى النهوض والثورة يتكلم بما قاله الحسين عليه السلام لأصحابه، صحيح أن مسئوليته هي إشعار قومه بأنهم مكلفون شرعاً بالنهوض بوجه الحكم الجائر، وبالتأكيد أن مكافحة الظلم والجور من واجب الناس، إلا أنه عليه السلام كان يهدف أن يقوم أصحابه مخيرين بأداء ذلك التكليف عن طوع إرادتهم غير مرغمين عليه، لذلك نراه يؤكد عليهم باستغلال سواد الليل وترك ساحة المعركة والابتعاد عن العدو الذي لا يرغمهم على القتال إن هم فعلوا ذلك أنه هو عليه السلام لا يريد إجبارهم على البقاء معه، وأكد الحسين عليه السلام على أصحابه أيضاً بأنهم في حل من بيعته إن هم أرادوا تركه ووضعهم أمام ضمائرهم، فإن هم شعروا بأنهم على حق فعليهم اختيار الحق دون إكراه من جانبه عليه السلام أو من جانب العدو، إن اختيار شهداء كربلاء الأوائل البقاء مع الحسين عليه السلام بالرغم من تكرار الإمام عليهم لعدة مرات مسألة الذهاب، هو الذي منح هؤلاء الشهداء المنزلة الرفيعة التي هم عليها الآن، أما في الحرب التي شنها طارق بن زياد ضد الأسبان نراه يبادر فور عبوره بأسطوله المضيق، المسمى الآن باسمه، بإعطاء الأوامر لجنده بإبقاء ما يكفيهم من الزاد لأربع وعشرين ساعة فقط وإحراق الباقي وإحراق سفن اسطوله معها ثم يجمع الجند والقادة فيقول لهم بأن العدو من أمامهم والبحر من ورائهم والفرار يجعل مصيرهم الغرق وهم لا يملكون الطعام إلا لسويعات فلا نجاة لهم إلا في قتال العدو والفوز عليه وإبادته، إن الذي فعله طارق بن زياد هو عمل قائد سياسي، بينما الإمام الحسين عليه السلام لم يخوف أصحابه بالبحر والعدو ولم يرغمهم على دخول الحرب بجانبه كما أن العدو نفسه لم يكن ليجبرهم على القتال لو أرادوا تركوا المعركة، لقد خير الحسين عليه السلام أصحابه بالبقاء أو الذهاب دون أي إكراه.
  
 حقاً لقد كانت ثورة الحسين عليه السلام قائمة على الوعي والإدراك الكاملين بضرورتها سواء عنده هو أو عند أهل بيته أو لدى أصحابه، ولا يمكن لمثل هذه الثورة أن يقال عنها بأنها وليدة الانفجار النفسي أو العاطفي مطلقاً، ولمثل هذه الثورة الواعية حقائق وماهيات متعددة ومختلفة وهي ليست أحادية الكنه والحقيقة.
     ومن الفوارق الموجودة بين الظواهر الطبيعية والاجتماعية أن الطبيعية منها تكون أحادية الحقيقة فالمعدن الواحد، والذي هو من الظواهر الطبيعية لا يمكن أن يكون ذهباً أو نحاساً في آن واحد، ولكن في الظواهر الاجتماعية يوجد احتمال استيعاب الظاهرة الواحدة لعدة حقائق أو ماهيات،  و الإنسان بذاته هو إحدى العجائب التي يمكن أن تجتمع فيه حقائق متعددة.


الاثنين، 16 أبريل 2012

تفسير سورة الزلزلة - الشهيد مرتضى مطهري



بسم الله الرحمن الرحيم

{إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا*وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا*وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا*يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا*بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا*يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ*فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه*وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه}(الزلزلة/8:1).

سورة الزلزال من السور المكية القصيرة التي تتناول يوم القيامة، وهي من السور المثيرة والمؤثرة، وتعد من مجالات بروز إعجاز القرآن، لما فيها من روعة اللحن، والجمال، وقوة النفوذ إلى النفوس.
{إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا}
أي ذلك الزلزال الذي ليس له شبه بأي من الزلازل التي  يعرفها الناس في العالم. وذلك لوجود اختلافين بينهما:
الأول: هو أن الزلازل التي تحدث في عالم الإنسان زلازل جزئية ومحدودة، أي إن قطرها قصير، قد يكون 25كم في 25كم، أو أكثر 100كم، أو حتى إذا فرضنا أكثر من ذلك 500كم في 500كم، وهذا ما لم يحدث حتى الآن. ولكنه يرتبط بأنواع من التحولات والتغيرات في باطن الأرض، سواء  أكانت هذه تخلخلاً، أو ضغطاً للغازات الموجودة في مكان معين، أو غير ذلك. ثم تخرج هذه الحمم من باطن الأرض. أو الانهيارات التي تسبب تزلزل الأرض في قسم منها. إلا أن هذه، على كل حال، تهم أناس تلك المنطقة الذين يتعرضون لها. أما البعيدون فلا يحسون بها بالمرة.
وهناك زلزلة تقلب المنطقة رأسا على عقب، فتطمر مدينة في باطن الأرض، ولكنك إذا ابتعدت بضع عشرات من الكيلومترات، تجد الناس لا يعلمون بما حدث.
أما الزلزلة التي يشير إليها القرآن فلا ترتبط بنقطة معينة من الأرض، إنها تشمل الأرض كلها بل لا تشمل الأرض وحدها، وإنما تشمل كل الكون، وكل الشموس، وكل الكائنات. فانظر كيف هذا؟
والاختلاف الثاني هو إن الزلازل المألوفة تحدث بسبب تأثير عامل في آخر، أو قوة تؤثر في قوى أخرى أو في شيء آخر.
لنفرض إننا جالسون هنا، فتمر بهذا البناء شاحنة ضخمة، فإنها سوف تجعل البناء يهتز قليلا. فهذه البناية لم تهتز بذاتها، بل بقوة عامل خارجي أثر فيها وأدى إلى اهتزازها، أو كأن يكون امرؤ واقفا فيصدمه شخص آخر. أما الزلزلة العامة التي يشير إليها القرآن فناشئة من الداخل، من باطن الكون فمن باب المثال، نقول إن الجنين في رحم أمه لا تصدر منه حركة في أشهره الأولى، ولكنه عندما يبلغ الشهر الرابع، مثلا يقال إنه تصدر منه أول حركة. فهل حركة الطفل حصلت بفعل عامل خارجي، أم أنه قد تحرك بذاته وبفعل قوة باطنية؟
إن قضية الزلزلة هذه تتعلق في الواقع بقضية أخرى، وهي إن هذه الموجودات التي نطلق عليها اسم الجمادات التي لا تحس ولا تشعر، هل هي حقا فاقدة للشعور بكل معنى الكلمة؟ أم أنها، بحد ذاتها، وليس بحد ذات الإنسان، تملك نوعا من الشعور والإدراك؟ هذا موضوع يتكرر وروده في القرآن. فمرة يقول  ما من كائن إلا ويسبّح بحمده ولكنكم لا تفهمون ذلك(1- {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}(الإسراء/44).-المترجم ). هنالك أيضا نقطة أخرى يذكرها القرآن، وهي: متى تتبدل الدنيا إلى الآخرة؟ عندما تظهر من جميع الموجودات وجوهها الأخر {..وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}(العنكبوت/64).حينذاك تنكشف الوجوه الأخر للأشياء.

تلك هي الزلزلة التي ستحدث في الكون، كالجنين الذي يصل إلى مرحلة الحركة. عندئذ يحس الإنسان أن لكل ذرة من ذرات العالم حياة وشعوراً.
{وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} أي عندما يخرج من باطن الأرض ما هو مدفون فيها، كل الناس الذين دفنوا في الأرض وهم دفائن الأرض الثمينة، لا الذهب ولا المعادن، ولا النفط، ولا ما هو مرتبط بهذه الدنيا.
{وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا }(الزلزلة/3). ولكن الإنسان الذي سبق أن عرف الزلازل، يقول، وهو جاهل بما يجري، ما الذي يحدث للأرض؟
{يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا}
أي إن الأرض يومئذ تسرد سيرتها، سيرتها الطويلة الممتدة امتداد ملايين السنين.
{بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا}
أي إن الله هو الذي أمرها. هنالك أبيات من شعر مولوي الذي كان متعمقاً إلى حد يقل نظيره، تخص هذا الموضوع. يقول:
عالَم أفْسُرْده ست نام او جَماد
جماد أفسرده بـود أي أوسْتاد
باش تاكر كَسي بِحَشْر آيد عيـان
تـا بِبِيْني جُنْبِشِ جسم جَهانْ
"العلم جامـد اسمه الجمـاد
والجماد كان جامدا أيها الأستاذ
إبق حتى نجتمع في الحشر عيـانا
لترى حركـة جسـم العـالم"
إنه يشير إلى هذه الزلزلة، ويقول لا تظنن الميت ميتاً، إنما أنت لا تفهم، لا تدرك ذلك، إنك لا ترى الآن إلاّ جانبه الميت، ثم يقول:
جُون عَصاي موسى إيْنجـامـارشد
عقل را زا ساكنان إخْبار شد
"عندما انقلبت عصا موسى حيـة
أدرك العقل أخبار الساكنات"
ففي اليوم الذي انقلبت فيه عصا جامدة إلى حية، تبين للعقل أن الموضوع شيء آخر، وأننا ينبغي ألا نحسب الجمادات جامدة تماما.
الموضوع شيء آخر، وأننا ينبغي ألا نحسب الجمادات جامدة تماما.

بـارئي خـاك تُراجون زِندة ساخت
خاك هارا جُمْلِكي بايد شِناخْتْ

"إنه إذا أحيـاك من بعض تـراب
فلا بد من معرفة التـراب بجملته"

إن جسمك كان تراباً ميتاً، ولكنه الآن حي. إذن يتضح أن المسافة بين الميت والحي ليست بعيدة جداً، فالميت قد يحيا سريعاً، ولذلك علينا أن  نتعرف على كل الأتربة، إذ فيها تكمن القابلية على الحياة.
إن وجوهها التي تواجهنا ميتة، ولكن وجوهها التي تتجه نحو البارئ سبحانه وتعالى حية. إنها من حيث الطبيعة الربانية حية، ومن حيث الطبيعة الخلقية ميتة.
مُرده زيْنْسويَند وزان سُـورِنْده اند
خاموشى إِينجا وآنجا كوينده اند
جونكه آنها رافر سْتَدْ سُوى ما
آن عَصا كردد سُوى ما إِزْدها
"ميـتة من هذا الجانب وحيـة من ذاك
صامتـة هنـا وناطقة هنـاك
و هو إذ يرسـلها إلينـا
تتحول تلك العصا حية عندنا"
فهو إذ يرسلها إلينا يراها حية لا ميتة، فإذا أمرها حولت جانبها الحي إلينا. ثم تجري ا لقصيدة تشير إلى جمادات أحياها، كالريح التي سخرها لسليمان، والبحر الذي ائتمر بأمر موسى، والجبال لداوود،  وانشقاق القمر لمحمد، وتحول النار بردا على إبراهيم ...
{يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا}

نذكر ما مر بها بحسب ما أوحى لها الله. وقد جاء كذلك في القرآن المجيد، في سورة يس:
{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}(يس/65).
{يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ}
أي يوم يصدر(1- إن الفعل (يصدر) في العربية معنى خاصاً، لم أجد في الفارسية كلمة تقوم مقامه. فمثلاً يقولون في الفارسية إن هذه الهوية "صادرة" من طهران، ويستعملون الكلمة العربية. أو يقولون إن فلانا "أصدر" الأوامر الفلانية. ويستعملون الكلمة العربية. أو العربية أيضاً. فإذا شئنا أن نرفع هذه الكلمة ترى ماذا يمكن أن نضع في مكانها لنحصل على المعنى نفسه؟ ولما كانت كلمة "الصدور" تختلف عن "الخروج" في المعنى، فلا يمكننا استعمالها بمكانها، فإذاً نحن بدلا من أن نقول إن الهوية "صادرة" من طهران، قلنا أنها "خارجة" من طهران، يكون المعنى مغايراً لما نريد. في الأيام التي كانت فيها اللاّعربية على أشدها، وضعوا "مرسلة أو مرسل" الفارسية بمكان "صادرة أو صادر" فمثلاً قولهم: الهوية مرسلة من طهران، لا معنى له، لأن وضع مرسلة بمكان صادرة لا معنى له، لأن "مرسلة" ليست ترجمة لكلمة "صادرة" والتجار أيضا عندما يرسلون بضاعة من مكان إلى مكان يستعملون كلمة"إرسال" أما إذا عطشت الحيوانات فوردت الماء وارتوت، يوصف حالها عندئذ بالصدور، أي إنها صدرت عن الماء. ولكن تطور هذا المعنى فيما بعد، حيث يقول القرآن: إن الناس في ذلك اليوم يصدرون من الأرض كالأمر الذي يصدر من صاحب أمر، او كالهوية التي تصدر من مكان ما. هنا الناس هم  الذين يصدرون.) الناس جماعات متفرقة. لماذا؟ إنه تعبير عجيب أيضا.
{لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} أي إن الناس يذهبون ليستعرضوا أعمالهم وأعمال الناس في هذه الدنيا طيلة حياتهم، صغيرها وكبيرها، حيث يتجسد العمل نفسه ويحضر. فكيف تكون حال الإنسان وهو يدخل معرض الأعمال؟ إنه لا يرى سوى السواد والظلام وأشياء على هيئة نيران وحيات وعقارب. وعلى عكسه الذي يؤخذ إلى معرض ثواب الأعمال، حيث إن أكثر ما يرى هو الأعمال الحسنة الجميلة، بحيث قيل إنه لو كان الموت ممكنا يوم القيامة، لمات أهل السعادة فرحا، وأهل الشقاء كمداً. أي لو أن تلك السعادة التي توهب للإنسان في الأخرى وهبت للإنسان في دار الدنيا، لتحجر فوراً. ولو نزل ذاك الشقاء على أحد في الدنيا، لتوقف قلبه حالا ومات.
{يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ}

ثم يشرح القرآن معنى {ليروا أعمالهم} بقوله:
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه*وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه}
والذرة هي أصغر وحدة قياسية في العربية. أي بمقدار الذرة التي ليس أصغر منها جسم. من المعروف عندنا عندما نقول (ذرة نقصد أصغر معيار نعرفه مما لا يمكن أن نراه بالعين المجردة. وهي الذرات التي لا نراها إذا كنا في الشمس، ولا نراها إذا كنا في الظل، ولكننا نراها إذا كنا في الظل ومر منه عمود من نور، كأن تدخل أشعة الشمس من إحدى النوافذ، عندئذ يرى الإنسان وسط ذلك العمود من النور دقائق صغيرة تتحرك. فهذه هي الذرات بالعربية، أي أصغر شيء يظهر للعيان من الجسم. ومصطلح الذرة هذا يستعمله العلماء والفلاسفة في قضايا الجسم ومم يتكون. فكان عدد منهم يرى (وهي النظرية التي تأيدت فيما بعد) إن كل جسم يتألف من أجسام صغيرة جداً. وهذه الأجسام الصغيرة جداً أطلقوا عليها إسم الذرات، ذرات صغار صلبة كانوا يعتقدون أنها غير قابلة للإنشطار، وهذه أيضا هي الذرة في العلوم الحديثة.
على كل حال، يقول القرآن إن من عمل مقدار ذرة من الشر فإنه سوف يرى جزاءه.
والآن لاحظوا اللحن في السورة، مع ملاحظة المعنى:
{إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا*وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا*وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا*يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا*بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا*يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ*فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه*وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه}(الزلزلة/8:1).